من العراق إلى فلسطين : بضاعة فاسدة بتغليف فاخر

TT

كلما أمسكت القلم لأكتب مقالي الأسبوعي، متمنياً أن أكتب في موضوعات لم يسبق لي أن طرقتها، أجد نفسي مضطراً إلى أن أعود إلى تناول موضوعين يتنافسان على الاستئثار بما أكتب لأنهما يمسّان بقوة الحس القومي والشعور بالألم والغضب لما آلت إليه أوضاعنا إذ يتعرض العالم العربي لهجمات تزداد ضراوة وخطورة، ومحاولات تدليس وخداع تتنوع أشكالها التي تذهب من اطلاق ستائر الدخان الخادع إلى اطلاق الرصاص الجائر على الآمنين، إلى تلوين الأوضاع بمختلف ألوان الطيف بدون السماح لها بأن تختلط لتكون لون الضوء الواعد والموعود. هذان الموضوعان هما بالطبع فلسطين والعراق، وسوف أتعرض لهما مع إقراري بأن هناك موضوعات أخرى تستحق التوقف عندها في لبنان وفي سوريا وفي السودان .

أبدأ أولاً بالعراق. ولست مثل المتشككين ممن يرون مؤامرة بين التحرك العربي الذي جاء متأخراً ولكنه على أية حال محمود ومطلوب، وبين تزايد الشعور الأميركي بمأزق يبدو كالهوة السحيقة تنشق عنها الأرض أمام الادارة والشعب الأميركيين، ليست بالقطع مؤامرة بل ـ وهو أمر لا عيب فيه ـ تلاقي مصالح في لحظة معينة، فالعرب من واجبهم أن ينقذوا العراق بعد أن تركوه طويلاً نهباً لأشرار في الداخل والخارج دمروه وأهانوه وعذبوه وامتصوا دماءه، والأميركيون يشعرون بوطأة ما دفعتهم إليه طغمة ـ لا تقل شراسة ولا غباء عن العصبة التي كان يتزعمها صدام ـ من سياسات خرقاء. وقد تعالت الأصوات في الكونجرس وفي الرأي العام الأميركي تعبر عن سخطها على رئيس إنقاد إلى الخطأ بعد الخطأ، وإلى التخلي تدريجياً عن كل المبادئ التي كانت تفتخر الولايات المتحدة بأنها تحمل لواءها وتريد أن تنقلها ـ بالرضا أو بالقوة ـ إلى غيرها. وها نحن رأينا الديمقراطية المزعومة وما أدت إليه، فلا أمن ولا أمان، ولا وفاق وتضامن، ولا تحسن ملموس في مستوى المعيشة أو في الخدمات. وها نحن نرى قاضياً عراقياً يجلس للحكم على صدام وصحبه فنرى القاضي يكاد يرتعد أكثر من المتهم، ولا ينطق إلا بصوت خفيض مرتعش ومتردد كأنه يتساءل عما يفعله في هذه القاعة. وفي هذه الظروف فليس مستغرباً أن نسمع أياد علاوي رئيس وزراء ما سمي بالحكومة العراقية المؤقتة التي جاء بها الاحتلال ـ المتخفي تحت اسم التحالف ـ يقول إن أوضاع حقوق الانسان في العراق المحرر تكاد تكون أسوأ مما كانت عليه في العهد الغابر الذي يبدو وكأن شخوصه هي التي بادت وتركت وراءها ممارسات لا أعتقد أن لها وصفاً في قاموس الديمقراطية، تحدثت عن لحظة التقاء خطين، خط عربي أدرك أن عليه واجباً ومسؤولية، وخط أميركي يرحب بالدور العربي ـ ليس حباً فيه ـ بل أملاً في أن يوفر له مخرجاً، ونحن نرجو أن نجد له المخرج فعلاً حتى ينزاح الاحتلال الأميركي ـ بما حمله معه من بضاعة فاسدة حتى إذا كانت مغلفة تغليفاً فاخراً، على ألا يمس هذا بمصالحنا التي لا تتطابق مع مصالحهم.

وقد لفت النظر الى أن الولايات المتحدة لم تغضب لما جاء في بيان المؤتمر التحضيري للوفاق العراقي في القاهرة حول المطالبة بوضع جدول زمني للانسحاب الأجنبي، وعدم ادانة المقاومة الحقيقية التي لا توجه ضرباتها إلى المدنيين، بمعنى تلك التي تقتصر على القوات المحتلة وفقاً لمقتضيات القانون الدولي، وقد عزز هذا الكلام ـ الذي يجب أن تستمر الجهود العربية ازاء جميع الأطراف العراقية من أجل التمسك به وتفعيله ـ الاتجاهات داخل الولايات المتحدة ومنها قرارات للكونجرس حتى إذا كانت خجولة ـ تتحدى، بل تعدل، الحديث الرسمي الذي كان يرفض تناول موضوع تحديد موعد للانسحاب متهماً من يدعو إلى ذلك بأنه يشجع العنف من جانب من يسمونهم المتمردين. وقد قرأت أخيرا مقالاً لـ Richard Clarke الذي عمل في مجالات الأمن القومي والارهاب تحت أربعة رؤساء هم ريجان وبوش الأب ثم كلينتون وبوش الصغير (واختلف معهم جميعاً لأسباب متعددة) يضع فيها خطة للانسحاب على مراحل تبدأ من يناير القادم وتنتهي في 2007 .

وتتضمن الخطة ما يلي:

العمل على تركيز الدعاية على ما تم انجازه من عملية العراق حتى لا يشعر أهالي الضحايا الأميركيين أن تضحياتهم ذهبت هباء. وربط تلك الانجازات ـ التي ستتوجها في رأيه الانتخابات التشريعية العراقية باعلان البدء في الانسحاب لينتهي في 2007 بدون تحديد موعد جازم حتى تكون هناك مرونة نسبية في التنفيذ.

ان هذا الانسحاب التدريجي لن يؤدي إلى زيادة حدة «التمرد» كما تدعي الحكومة الأميركية، فالواقع أن بقاء القوات لم يقلل من حدة العنف. كما أن هذا الانسحاب قد يشجع العناصر المعتدلة وغير «المتمردة» على أن تدرك مسؤوليتها في الاعتماد على نفسها، والتغلب على الخلافات الطائفية وايجاد حلول وسط تتوافق عليها، والعمل معاً على طرد العناصر الخارجية المشاركة في أعمال العنف.

كما أن هذا الانسحاب وبدءه قد يزيلان الأسباب والحجج التي يتعلل بها من يلجأون إلى العنف لمقاومة الاحتلال، وقد يشجعان الجامعة العربية على الاسهام في دعم الاستقرار في العراق.

ويشير كلارك إلى ما يقال عن احتمال انتشار الفوضى بعد الانسحاب خاصة أنه يطلب عدم ربطه ربطاً مطلقاً «بمدى الاستعداد في القوات العراقية التي وضح أن قدرتها على التقدم محدودة». ويقول ان «العراق بعد الانسحاب لن يكون هادئاً هدوءاً تاماً»، ولكن تأجيل الانسحاب لا يوازي في اضراره ـ من ناحية الضحايا والتكاليف ـ مزايا الانسحاب خاصة أن الولايات المتحدة لا تستطيع تحمل تلك التكاليف لما بعد 2007. كما أن استمرار بقاء القوات الأميركية يغذي في حد ذاته حركات التمرد لمقاومة الاحتلال.

ان الولايات المتحدة تظل عليها مسؤولية ـ بعد انهاء الوجود العسكري ـ في أن تظل تبذل جهودها الدبلوماسية من أجل العراق وتدريب كوادره والاسهام في اعادة بنائه. وقد صدرت آراء كثيرة تلتقي مع هذا التفكير بدرجة أو بأخرى ومنها تصريحات للسناتور الجمهوري «ورنر» والسناتور الديموقراطي «ليفين» والسناتور «بايدن» الذي نادى بتحرك على ثلاث مراحل يرتبط بها تحقيق الانسحاب:

أولاً التسوية السياسية الداخلية، وثانياً توفير الخدمات الأساسية (وهي ما لم يمكن توفيره حتى الآن وهي فضيحة في رأيي بكل المقاييس)، والاسراع في تدريب القوات العراقية.

وهذه كلها أفكار وآراء تعكس ازدياد الرفض لاستمرار الوضع الحالي الذي ترتب على انتصار عسكري. ولعله من المفيد أن نشير هنا أيضاً إلى أن هذا الوضع أدى إلى تفكير عسكري جديد يحمل في طياته اخطاراً قد يكون من المناسب التنبه لها.فقد خلص البعض ـ من العسكريين وغيرهم ـ من درس العراق إلى أفكار حول أسلوب التعامل مع الدول بعد غزوها عن طريق قوات مسلحة مدربة تدريباً مختلفاً. أي أن أصحاب الفكر لا يستخلصون من درس العراق عدم جدوى محاولة تغيير الأنظمة بالقوة.

وإذ انتقلنا إلى الموضوع الآخر وهو فلسطين، لنعالجه في المساحة المتبقية في عجالة غير مخلة، فإني أريد أن أتوقف عند التحركات السياسية الداخلية لشارون وارتباطها باستمرار مخططاته الشريرة تجاه التسوية.

وأنا أكتب هذا بينما يستمر الاسرائيليون في اقتحام الأراضي الفلسطينية والقتل والتدمير، في حين يستمر شارون في لعبته الخداعية الجديدة التي اسماها حزب «كاديما» الذي يعني إلى الأمام. وهو اسم وجدت على الإنترنت أنه ليس جديداً، فقد وجدته يطلق على مجموعة من المدارس في كاليفورنيا، وعلى محل تجارة أثاث في نيوزيلندا أي أنه اسم تجاري في الواقع، وكأن شارون يريد أن يتاجر به في المجال السياسي ليبيع هو أيضاً فيه بضاعته الفاسدة. كما أن بعض الاسرائيليين اعترضوا على الاسم لأنه يذكر باسم الحركة الفاشية لموسوليني التي كان اسمها باللغة الايطالية Avanti أي إلى الأمام أيضاً. باختصار، ان شارون بتركه حزب الليكود، وتشكيلة الحزب الجديد، يريد أن ينقل نفسه على المسرح السياسي إلى الوسط أي يريد أن يظهر أن مواقفه السياسية معتدلة وأنه يترك التطرف لحزب الليكود. وقد سبق أن تناولت خطته للانسحاب من جانب واحد من غزة التي كان يريدها خدعة ليطلق يده في بقية الأراضي الفلسطينية، لولا أن مصر عملت وما زالت تعمل في هدوء على إفساد مخططه الذي تكشف عن حقيقة السياسات التي ما زال مستمراً فيها في الضفة من استكمال بناء الجدار التوسعي، وممارسات الاجتياح والقتل والاختطاف والتدمير. ويتضح ما يرمي إليه شارون من ارتداء ثوبه الجديد الذي استعاره من مسرحية الاعتدال ـ التي سبق أن رأيناه كما رأينا بيريس فيها، وقد نرى بيريس أيضاً ـ إذ تراجع عن مواقفه المعتدلة بتأكيده أنه سيركز على السياسة الداخلية، تتضح أهداف شارون من مبادئ حزبه الجديد وأوجزها فيما يلي:

تأكيد الحق الوطني والتاريخي في اسرائيل بكاملها. إلا أنه للاحتفاظ بالأغلبية اليهودية فإنه يجب التنازل عن جزء من أرض اسرائيل وتقديم تنازلات للفلسطينيين للحفاظ على دولة يهودية وديمقراطية.

ستبقى القدس ومجموعة عريضة من المستعمرات في الضفة الغربية تحت سيطرة اسرائيل.

تتم اقامة دولتين على أساس خريطة الطريق بالمتطلبات الاسرائيلية حول نزع الأسلحة وحل منظمات المقاومة.. إلخ.

وهكذا، لا تتغير مخططات شارون الليكودي عن مخططات شارون «الكاديمي»، فهو يتجه دائماً «إلى الأمام» نحو مزيد من البغي والعدوان وضم الأراضي بدون أن يعترف بحقوق للفلسطينيين بل يبدي فقط استعداداً لتقديم فتات من التنازلات بعد أن يجردهم من قدرتهم على مقاومة مخططاته ويلقي بهم ـ إذا استطاع ـ إلى أتون الحرب الأهلية.

* وزير خارجية مصر السابق