يمكن الاعتماد على أنفك!

TT

في فيلم (مسيو إبراهيم وزهور القرآن) يقول البطل عمر الشريف للشاب اليهودي انه إذا ذهب الى مكان ووجد صناديق الزبالة وليست بها زبالة، فهو حي أرستقراطي.. وإذا وجد صناديق الزبالة وبها زبالة فهو حي غني وإذا وجد الزبالة خارج الصناديق فهو حي فقير وإذا وجد الناس تعيش في الزبالة ولم تكن هناك صناديق فهم في قاع الفقر..

وقال له أيضا إذا دخلت إحدى الكنائس وشممت رائحة الشموع فهي كنيسة كاثوليكية وإذا شممت رائحة البخور فهي كنيسة أرثوذكسية. أي أن هناك وسائل أخرى لمعرفة أين يكون الإنسان ـ ليست كلها بصرية ـ وإنما هناك الأنف والرائحة يعتمد عليها في معرفة الأماكن..

وقد قمت أنا بهذه التجربة منذ اكثر من عشرين عاما. فقد أصدرت كتابا بعنوان (بلاد الله خلق الله).. وقررت أن أعرف الدول المختلفة بأسلوب مختلف..

فاعرف إيطاليا من النظر الى ميادينها والى التماثيل والنافورات. وعن طريقها اعرف الذوق الفني في كل شيء اخر..

وفي فرنسا ابدأ من المقاهي والفترينات وانتقل منها الى ذوق الناس وحياتهم وثقافتهم..

وفي ألمانيا انظر الى الصيدليات..

وفي بريطانيا الى المكتبات العامة..

ورغم إنني بالغت في ذلك كثيرا.. ولكن أحدا لم يلتفت الى هذه الطريقة.. اللهم إلا المترجمة الإيطالية سينا روصنم..

ثم قمت بتجربة شخصية محدودة. فقد كنت أعيش في حي الزمالك بالقاهرة. وفي ذلك الوقت كان حيا أرستقراطيا. اما الان فلم يعد كذلك.. وكان شارعنا اسمه شارع الأمير حسين. وكان الشارع يضم ست عمارات وفيلا واحدة.. الفيلا للسيدة نعمت هانم يكن أخت عدلي باشا يكن رئيس الوزراء السابق.. وكان من الممكن أن يمشي الإنسان مغمض العينين.. فلا خوف عليه.. فالسيارات قليلة والشوارع نظيفة ناعمة. وفكرة أن امشي مغمض العينين واهتدي الى البيوت التي أمر أمامها برائحتها.. وكانت لها رائحة تتفاوت قوتها من بيت الى بيت.. وفي الصباح الباكر يكون لها رائحة القهوة وفي الظهر تتغير الرائحة ويكون لها رائحة الخضراوات المطبوخة. وفي العصر تحتشد كل الروائح: عطور وفواكه وروائح أخرى أميزها ولا اعرف كيف اسميها..

وإذا مررت بالقرب من فيلا نعمت هانم يكن فإنني لا أجد أية رائحة: لا بن ولا شاي ولا لحوم ولا زبدة ولا سمنة ولا فاكهة.. ومن المؤكد أنها تأكل وتشرب وعندها طهاة. فأين تذهب الرائحة.. وفهمت فيما بعد أن طعامها مسلوق وأنها تكره كل هذه الروائح الجميلة المشهية التي تنبعث من كل البيوت.. وأن مطبخها تحت الأرض.. وأن جميع الطهاة والخدم يأكلون تحت الأرض ـ عجبي!