من تواضع لله رفعه

TT

هناك قول لست أدري هل هو مأثور أو غير مأثور، غير أنني سوف أورده لأنه محبّب إلى نفسي، وهو: (مَن تواضع لله رفعه) ـ خصوصاً إذا كان من يتواضع لي ذا منصب وجاه ومال ـ، ولو انه زيادة على تواضعه لي كان (يستلطفني)، تكون المسألة (كملت)، وأستطيع ساعتها أن استغل الفرصة في ما يفيدني وظيفياً أو معنوياً أو مادياً.

ولا اعتقد أن جميع الناس هم على شاكلتي، فغالبيتهم يستنكفون استغلال الفرص ويأنفون منها، وقد يحتقرون العياذ بالله من يستغلونها.. لكن مع أنني ممن يسعون إلى هذا الاستغلال ويتهافتون عليه بنهم، إلاّ أنه لم يصادفني طوال حياتي، أو بمعنى أصح أنه صادفني فعلاً غير أن شجاعتي لم تواتني، وخارت قواي من أول نظرة من الرجل (المرموق المتواضع).. وهكذا يتأكد لكم بما لا يدع مجالاً للشك أنني استغلالي رعديد (مع وقف التنفيذ).

أعظم العظماء كانوا متواضعين، وهذا محمد رسول الله الأمين يدخل إلى مكة فاتحاً وهو مطأطئ رأسه ومنحنياً على كور ناقته من شدّة التواضع، وهو الذي هدأ على رجل من شدة اضطرابه عندما قابله لأول مرة وجهاً لوجه، وقال له بما معناه: هوّن عليك فما أنا سوى ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة.

عمر بن عبد العزيز عندما طلب منه أصحابه ألا يتعب نفسه في ايقاد السراج، قال لهم: ذهبت وأنا عمر، ورجعت وأنا عمر، لم ينقص مني شيء، المسيح عليه السلام كان قمة التواضع، انشتاين، غاندي، لونكلن، وغيرهم، وغيرهم من العباقرة وصناع القرار كانوا متواضعين.. والتواضع لا يعني الإذلال وتصغير النفس، إنما هو ينبع من الثقة بالنفس والسمو بها إلى أعلى المراتب، لماذا؟!، لأنه مثلما قال الشاعر العظيم المتنبي الذي لا يمت للتواضع بأي صلة عندما قال: (وتصغر في عين العظيم العظائم).

والتواضع عند القوي صاحب السلطة، له مفعول يختلف عن تواضع الضعيف الهلفوت الذي ليس له أي سلطة ولا على ثلاث عنزات، فأي تواضع عند هذا الأخير وهو لا يملك حتى من أمره شيئاً.

والاعتراف أيضاً هو نوع من أنواع التواضع، وقد ارتقى الموسيقي الكبير (موزارت) في أعين النقاد عندما قال على الملأ: انه اقتبس النغمة الرئيسية لافتتاحيته (الناي السحري)، من إحدى مقطوعات (السوناتا) لكليمنتي.

ومن مظاهر التواضع التي واجهتني، أنني تقابلت صدفة في أحد الشوارع بمدينة أوروبية مع شخصية مرموقة ومسؤولة لها ثقلها، ولفت نظري انه كان يسير بكل بساطة مع اثنين فقط من مرافقيه، سلمت عليه وأخذ بيدي، وعندما مررنا بأحد مطاعم الوجبات السريعة، قال لي ما رأيك أن تعزمنا فيه، قلت له بشيء من الحرج: على الرحب والسعة، ووقفنا بالطابور، ثم أخذ كل واحد صينية، وعندما أكلنا، وإذا به يصر هو على أن يفرغ صينيته بنفسه في دولاب الزبالة، والواقع أنه كبر بعيني أكثر مما كان كبيراً.

والحمد لله أن العزيمة كانت مجرد (هامبرغر) مع البطاطس، وزجاجة واحدة من مياه (البريه)، واثنين كوكاكولا، أما أنا فلم أطلب مشروباً، وذلك بقصد التوفير، وعدم الإخلال بالاقتصاد العالمي.

[email protected]