بين يدي قمة مكة: العالم الإسلامي مشكلاته وهمومه (المأزق والمخرج)

TT

بعد أيام، ستنعقد (قمة مكة الاستثنائية)، التي تنتظم قادة العالم الإسلامي، كما تنتظم مراقبين يمثلون أعداداً كبيرة من المسلمين في عالمنا هذا.

تنعقد هذه القمة في حقبة تشبه حقب: ظهور الإسلام.. والغزو التتري.. والحروب الصليبية.. والاجتياحات الاستعمارية للعالم الإسلامي، من حيث العداوات والتحديات المادية والمعنوية والحضارية لـ (الوجود الإسلامي).

هذه رؤية مجملة.

بيد أن هذه الرؤية لا تبلغ صحتها وتمامها إلا من خلال (صورة وصفية) لواقع العالم الإسلامي.

وتتكون هذه الصورة الوصفية من محورين أو خطين رئيسيين:

أ ـ خط (القصور الذاتي).

ب ـ وخط (الهجوم الخارجي).

أولا: القصور الذاتي

لقد لبث المسلمون أحقاباً في ظلمة التخلف الثقيل الوطأة، الفادح الآثار.. ومن علل هذا التخلف: سوء الإدارة.. وجمود الفقر والفقهاء.. وضمور أو وفاة ما يسمى اليوم بـ (مؤسسات المجتمع المدني): العلمية، والثقافية، والخيرية: الصحية منها، والغذائية، والإسعافية.. إلخ، ورابعة واهية وهي: عقم أنظمة الحكم وفسادها وتردي اهتماماتها.

وعلى الرغم من وجود (وميض) نهوض في تلك القرون، فإن شدة الظلام كانت تطوي الوميض في حلكتها طياً يبعد عن الأعين شعاعه على عجل.

وبينما كانت الأمة الإسلامية تغرق في هذا الواقع البئيس الذي صنعته بيديها: اجتاحها الاستعمار الغربي الذي تلخص في:

أ ـ نهب الطاقات المادية التي هي أحد أركان النهضة القوية.

ب ـ تحطيم الطاقة المعنوية التي هي الركن الأول والأهم للنهضة الحرة المريدة الشامخة.

وبإزاء هذا الاستعمار الذي استبدّ بالحقوق المعنوية والمادية للأمة: نزع العالم الإسلامي ـ كسائر الدول المستعمرة في العالم ـ منزع الاستقلال والتحرر من الاستعمار.

ولكن هذا المطلب الاستقلالي، وهو مطلب كريم عزيز لا بد منه: لم يقترن بـ (مضامين) تفعم صورته وشكله بمناهج ورؤى وبرامج تبني الأمة بناء حقيقيا في التعليم والثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والحراك الدبلوماسي.

لقد كان الاستقلال (فارغا) من هذه المقومات جميعا.

وبحكم هذا الفراغ وضغطه: صُنعت في العالم الإسلامي أنظمة حكم لسد هذا الفراغ المهول.

وقد تراوحت هذه الأنظمة بين صيغ مختلفة: صيغة (التقليد التام) للنمط الديمقراطي الغربي.. وهو تقليد ضرير ثبت فشله في الوطن العربي والعالم الإسلامي.. والسبب العميق للفشل هو: الكسل العقلي والفكري والسياسي، بمعنى أنه لم يحصل اجتهاد فكري وسياسي للاستفادة من الديمقراطية الغربية: استفادة تأخذ من الديمقراطية أحسن ما فيها وتكيفه مع ثقافة البيئة وخصائصها وهويتها، مطرحة كل سالب وشاذ، تجربة الديمقراطية الغربية: وفق معايير علمية ومعتبرة وعقلانية للقبول والرفض.

لكن (المقلدين حرفيا) لا يعقلون.. وبسبب هذه الغيبوبة العقلية: خابت التجربة الديمقراطية التقليدية غداة الاستقلال، وهي خيبة جرفتها وأزالتها الصيغة التالية: صيغة الانقلابات العسكرية التي ارتج بها عالم المسلمين أيما رجة.. وفي ظل هذه الصيغة ـ التي جاءت لسد فراغ ما بعد الاستقلال أيضا ـ ازداد التخلف في العالم الإسلامي: اتساعا وشدة وحدة.. لقد خابت الانقلابات العسكرية في الحروب الدفاعية.. وخابت في التنمية.. وخابت في السياسة الخارجية.. وخابت في (حقوق الإنسان)، إذ تعرضت الشعوب المسلمة لأنواع غليظة قاسية دميمة من كبت الحريات، والإذلال، والتعذيب.. ولا يقولن قائل: إن الشعوب كلها لم تعذب، ذلك أن تعذيب إنسان فرداً إنما هو تعذيب للشعب كله، بل هو تعذيب الناس أجمعين، لأن كل إنسان يمثل النوع الإنساني كله، فمن عذب إنساناً فكأنما عذب الناس جميعا.

وفي هذه الأثناء انشقت الأرض عن الصيغة الثالثة وهي (صيغة الموجة الاشتراكية)، التي منعت ولم تعط، وظلمت ولم تعدل، وهدمت ولم تبن، وبددت الموارد ولم تنمها: فانحطّ في أثنائها كل شيء: أسعار العملة.. ونوع القوت.. والخدمات.. وموازين التبادل التجاري.. و.. و.. و.

ومما يندغم في (خط القصور الذاتي): الصراعات (البينية): الحدودية.. والعرقية.. والطائفية.

ولنأخذ الطائفية (نموذجا).. ان الصورة الوصفية لواقع هذه القضية تقول: ان من الاسلحة المدمرة التي يمكن ان تمزق نسيج الأمة تمزيقا يفجر شرايينها تفجيرا يؤدي الى الانتحار او الموت.. من هذه الاسلحة: سلاح الخلاف المذهبي بين السنة والشيعة.

ان الصدق والوضوح في النصح للأمة ولقادتها الذين سيلتقون في مكة المكرمة بعد قليل: يقضيان بالجهر بأن هناك (ألغام فتنة) تكاد تنفجر بين السنة والشيعة في اكثر من بلد: في باكستان.. ولبنان.. والعراق و.. و.. وهناك من يحاول ان يجعل البلد الاخير (بركانا) للفتنة التي ستمتد الى خارجه بكل تأكيد في حالة وقوعها: وقى الله شرها.

صحيح ان ثمة عقلاء من الطرفين يدركون المخاطر ويكدحون لدفعها بكل وسيلة، لكن هناك ايضا غلاة في الطرفين لا يتصورون النصر والمجد الا بالانتصار الساحق في هذه الفتنة وهو انتصار يستدعي استبقاءها وتأجيجها في تقديرهم.. يضم الى ذلك: الاطراف الخارجية التي ربطت تنفيذ استراتيجياتها باندلاع الفتنة الكبرى بين السنة والشيعة.

ان استبعاد هذا (اللغم الديني المذهبي) من الصورة الوصفية: يجعل هذه الصورة ناقصة الموضوعية، ناقصة الواقعية.. ومما لا ريب فيه ان الكلام (مرّ) جدا في هذه المسألة.. نعم.. ولكن هناك ما هو امر منه وهو: نكران الواقع على نحو يزيده تعقيدا وبلاء وسوء عقبى.

ما هذه الصورة المعتمة المظلمة؟.. الا توجد جوانب مشرقة في عالم المسلمين؟

والجواب:

1 ـ ان هذه الصورة ليست خيالا مبتكرا، بل هي صورة وصفت واقع المسلمين ثم قدمته لهم كما هو. فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن الا نفسه.

2 ـ لا شك ان في العالم الاسلامي مظاهر تقدم ونهوض، لكن عظم الرسالة.. وضخامة التحديات.. واهوال التخلف.. والدور الحضاري الانساني التوازني الريادي الذي ينتظر المسلمين وينتظره العالم.. ذلك كله يجعل ما انجز اقل بكثير مما هو مطلوب.. وباستثناء حالات قليلة، فان مسار النهضة لا يطرد ـ كما ينبغي ـ في معظم البلدان الاسلامية.

ثانيا: الهجوم الخارجي الذي يمثل الخط الثاني من الصورة الوصفية لواقع المسلمين.

وهذا الخط مركب من ثلاث:

1 ـ الهجوم المعنوي الفكري الثقافي على الاسلام بوصفه دينا.. فلئن كان هذا الهجوم قد اشتد وتكثف في اعقاب يوم (النكد التاريخي) يوم 11 سبتمبر عام 2001، فانه قد سبق ذلك اليوم بسنوات او عقود متتابعة.. وبديه ان هذا المقال لا يتسع للاستقراء التام لوقائع هذا الهجوم، ولذا كان الاضطرار الى ضرب امثال وهي أ ـ الطعن في عقيدة المسلمين اي في ذات الإله الذي يؤمنون به. ب ـ الطعن في القرآن. ج ـ الطعن في نبي الاسلام.. فمنهم من قال: ان إله المسلمين اله قتل وتدمير وانتحار.. ومنهم من قال: ان القرآن هو مصدر العنف والارهاب.. ومنهم من قال: ان نبي الاسلام ارهابي!

2 ـ الهجوم المعنوي الفكري الثقافي الاعلامي على المسلمين كافة بصفتها امة مسلمة.. فمنهم من قال: ان المسلمين أمة متوحشة.. ومنهم من قال: ان المسلمين قاصرون عقليا ولا يستطيعون الحياة الا تحت الوصايا الغربية.. ومنهم من قال: ما صدق مسلم في تدينه الا صار ارهابيا.

3 ـ الهجوم المادي المتمثل في الغزو المسلح، والاحتلال العسكري، والاستيطان المستمر.. وهذه نماذج ثلاثة من هذا الهجوم المادي:

أ ـ غزو افغانستان واحتلالها.

ب ـ غزو العراق واحتلاله.

ج ـ استمرار العدوان الاسرائيلي على الفلسطينيين: شعبا وارضا ومقدسات ومقدرات.

وهذه البلدان التي تتعرض للغزو والاحتلال والاستيطان هي بلدان اسلامية بمقتضى الجغرافيا والتاريخ والحضارة والانتماء والغالبية السكانية.

نخلص من هذه الصورة الوصفية الى مفهومين اساسيين متوازنين خليقين بتحرير الامة من (العور الفكري) في النظرة الى اسباب التخلف وعوامله:

1 ـ فمن المسلمين من يرد اسباب التخلف الى عوامل خارجية بحتة.. وهذه نظرة عوراء.. ومنهم من يردها الى عوامل داخلية بحتة.. وهذه نظرة عوراء كذلك.. والصحيح ان اسباب التخلف مشتركة: ذاتية وخارجية.

2 ـ ومن المسلمين من يحمل الشعوب مسؤولية التخلف: تملقا للحكام بتبرئتهم من المسؤولية.. ومنهم من يتملق الجماهير بتحميل الحكام تبعة كل شيء.. وفي النظرتين (عور) والصحيح: ان حكام العالم الاسلامي وشعوبه يتحملون مسؤولية مشتركة عن الواقع السيئ.

وانما يكون وصف الواقع المهيض من اجل التحرر من أغلاله بمباشرة اسباب التقدم الحقيقي. وهذه هي المهمة السياسية الحضارية العظمى أمام قمة مكة. وهي مهمة تتطلب استراتيجية مزدوجة: استراتيجية للإسعاف العاجل للحالات الأشد خطرا.. واستراتيجية طويلة الأمد قوامها: أ ـ اجتهاد فكري سياسي ينتهي الى صيغة تجمع بين مضامين الشورى وآليات الديمقراطية في غير جمود ولا تبعية، ب ـ تطبيق المعرفة العلمية في ادارة الدولة والمجتمع، ج ـ اعتماد الانتاج الكمي والكيفي طريقا الى القوة الاقتصادية، د ـ اصلاح العلاقة (البينية) بين الدول الاسلامية، هـ ـ انعقاد الاجماع على الاسلام الحق الجامع : الأكبر من الطوائف والمذاهب، و ـ اقامة علاقة عزيزة ومربحة مع العالم، ز ـ أن تضعوا ايديكم في يد الله بالصدق معه في تطبيق ما استطعتم من شريعته التي أنزل لكم.