صناعة الخطف في العراق

TT

قبل ثلاثة أيام، أدانت محكمة الجنايات في الناصرية بالعراق افراد عصابة بتهم اختطاف زائر اجنبي، اردني الجنسية، احتجز لأربعة اسابيع حتى خلصته قوات امنية عراقية وقبض على العصابة.

وبجانب المواطنين العراقيين، احصيت من مطالعة تقارير الاختطاف، قرابة عشرين جنسية لرهائن اجانب؛ منهم، على سبيل المثال لا الحصر، أردنيون، وأمريكيون وأيطاليون، وأستراليون، وفلبينيون، وكنديون، وكوريون، ومصريون، ومغاربة وهولنديون وغيرهم. وحصرت من اديانهم وطوائفهم: شيعة وسنة واسماعيلون وارثوذوكس، وكاثوليك، وبروتستنانت، ويهود، وبوذيون وسيخ، وهندوس، و«انسانيون».. الخ.

وأعمارهم تتراوح من طلاب في العشرينات حتى شيوخ في العقد السابع، ذكورا واناثا، متزوجين وارامل، اولادا وبنات، آباء وامهات.

القاسم المشترك بين كل هؤلاء الرهائن، عراقيين أو اجانب، انهم لا علاقة لهم بالحرب والحروب.. فهم مهنيون مدنيون، ومعلمون، وممرضات واطباء ومحامون ومهندسون، وعلماء آثار.

والقاسم المشترك بين الأجانب انهم جاؤوا لمساعدة ابناء الأمة العراقية، سواء تطوعا عبر منظمات خيرية عالمية، كالبريطانية/ العراقية مرجريت حسن، او المجموعة المختطفة قبل عشرة ايام، أو يكونون أتوا للعمل بالتعاقد مع شركات إصلاح البنية التحتية والمرافق العراقية، او ديبلوماسيين يبذلون يتوسطون للمصالحة بين الفرقاء العراقيين، مثلما حدث مع السفير المصري.

المجموعة الأخيرة التي عرضت على شريط تلفزيزني مساء الاثنين، وتضم شيخا في الرابعة والسبعين هو البريطاني نورمان كيمبر، كلهم متطوعون لمساعدة العراقيين عبر منظمات خيرية، اتهمهم مصورو الشريط بالتجسس، لإجرائهم مقابلات مع عراقيين اتهموا قوات التحالف والحكومة الجديدة بسوء المعاملة وانتهاك حقوق الانسان.

وقد خبرت شخصيا، تلفيق البعث تهمة التجسس لزائر أجنبي، اثناء زيارتي لبغداد، كمراسل، عام 1987، حيث أردت أن يشمل تقريري تأثير الحرب الإيرانية العراقية، التي غطيتها بالمناسبة من الجانبين، لسنوات، على حجم التجارة الخارجية للبلدين. واثناء وجودي في وزارة التجارة العراقية، بموعد سابق، لمقابلة موظفي سجلات الصادرات والواردات، قبض علي بتهمة «التجسس» المضحكة، رغم نشر الوزارة الأرقام سنويا!

ولم أعد لفندقي إلا بعد ساعات طويلة، بعد تدخلات ديبلوماسية وحضور مسؤولي وزارتي الخارجية والاعلام العراقيتين، الذين رتبوا الموعد اصلاّ!

ولذا فإنني أعتقد وجود يد «البعث الجديد»، وراء تهمة التجسس لمجموعة العجوز كيمبر بعد إجراء مقابلات، خاصة وان تعبير «سيوف الحق» من ابتكار البعث سمعناه في7 ابريل 2003 عندما كانت قوات التحالف تدق ابواب بغداد في راديو بغداد، الذي كان جزءا من امبراطورية محمد سعيد الصحاف، وزير بروباجندا صدام حسين، الذي منحناه لقب «علي الكوميدي» Comical Ali بعد ان سبق «على الكيماوي» في التفاني في بث «صوت سيده». ناشد راديو الصحاف «اسود الأمة العراقية ان يمتشقوا سيوف الحق، ويهبوا في وجه المعتدي».

وقد يكون «البعث الجديد» دبر اختطاف الرهائن، لكن، المفارقة، أن العجوز كيمبر من قادة المظاهرات البريطانية ضد الحرب على العراق، وبالتالي فإن خطفه يعتبر عرقلة لمهمته في تدوين شهادات انتهاك الأمريكيين لحقوق الإنسان، ليس في مصلحة البعث نفسه!

الاحتمال الأرجح، هو أن اختطافهم تم على يد عصابة متخصصة في الخطف «باعتهم» لأقرب مشتر، أو أغني مشتر، وغالبا من اتباع صدام وعزة ابراهيم (والذي لا أصدق رواية موته التي بثت على الانترنت)، او ربما استأجر البعثجية أحد عصابات الخطف لاصطياد أي اجانب يصادفونهم، بصرف النظر عن الهوية والوظيفة لمقايضتهم بثمن سياسي، بعد عرضهم امام كاميرات الفيديو.

الملاحظ هو خلو شريط فيديو الخطف من رموز واشارات «القاعدة» والجماعات الاصولية السلفية، وغياب التهديدات الجسدية والإهانات التي يتعرض لها الرهائن في اشرطة الزرقاوي التي كان الرهائن يرتدون فيها عادة «عفريتة» عمال الورش البرتقالية اللون.

وحسب محاوراتي مع خبراء الأمن، عراقيين أو من قوات التحالف، خلال زياراتي للعراق، فإن خطف الناس تحول الى «صناعة» تحترفها عصابات. وكل ورهينة حسب الجنسية، وما يمكن ان تقدمه بلاده، لها سعرها الخاص في هذا السوق الهمجي.

ويتعرض رجال اعمال عراقيون للخطف على يد عصابات استأجرها منافسون؛ وهناك عصابات تعمل لتفسها Freelance تختطف ابن عائلة ميسورة الحال نسبيا، وتعيده سالما، نظير فدية بآلاف الدولارات.

وحسب مسؤول أمن عراقي التقيته في البصرة قبل اسابيع، تحاول اجهزة الأمن جاهدة مكافحة هذه النشاط الإجرامي، وتحقق نجاحات من حين لآخر في تحرير المخطوفين، سواء في كمائن، او تتبع من يلتقط أموال الفدية، ويقدم المتهمون فورا للمحاكمة. لكن انشغال قوات الامن العراقية بمكافحة الإرهاب وتأمين حياة وممتلكات الناس، من تهديد الانتحاريين، ومفجري السيارات المفخخة، تستهلك القسم الأعظم من وقتهم وجهودهم وامكانياتهم، خاصة البشرية المحدودة.

اما أسوأ اوجه «صناعة الخطف» التي انتشرت في العراق، ويصعب على رجال المباحث اختراقها ومنعها، كما يقول اخصائيو الأمن، فهي العصابات التي تختطف ديبلوماسيين، ومقاولين اجانب ومتطوعين، حيث تبيعهم للمنظمات الإرهابية كالزرقاوي ومسلحي البعث.

واذا كان الوجه الظاهر على شاشات التلفزيون يبدو سياسيا، الا أن عملية الخطف وبيع الرهائن نفسها، تندرج تحت بند الاجرام في القانون العراقي. وغالبا ما تحصل العصابة على فدية نقدية، او على قيمتها ادوية نادرة واجهزة غالية الثمن، مقابل الإفراج عن الرهائن، وتبيعها في السوق السوداء؛ رغم انكار ديبلوماسيين، واروبيين، وشرق أوسطيين، وآسيويين، ابرام صفقات لإطلاق رعاياهم، بعكس ما لدي من معلومات، واحيانا تبيعهم للعصابات الزرقاوي، او مجموعات البعث.

واشار مسؤول امن عراقي الى مثل عصابة واحدة، قرب منطقة الحلة، اختطفت رهائن عراقيين واجانب، اعادت بعضهم بعد تلقي الفدية، وباعت آخرين لمنظمات ومليشيات معادية لبعضها البعض.

واستنتج المسؤول من ذلك أن أغلب اختطافات الرهائن في العراق، هو نشاط اجرامي خالص لاعلاقة له بالسياسة او بوجود قوات التحالف في العراق.

الجدير بالذكر ان صدام، بعد سقوط نظام البعث الأول في انقلاب نوفمبر 1963، اسس عصابات من إخوته نصف الأشقاء، واولاد عمه من اسرة المجيد وكثير من رموز البعث كطه ياسين رمضان والصحاف وعزة ابراهيم، عندما استأجره البعث كـ(قبضاي)، أو (بلطجي) لترويع وقتل وضرب واختطاف الخصوم من الشيوعيين ومن زعماء الطلاب والحركة العمالية، ولفض الاجتماعات المعادية لهم.

وفي الوقت نفسه شكل صدام، جهازه الخاص، دون علم قيادة البعث وقتها، الذي تحول فيما بعد الى الجهاز السري «حنين» الذي استولى به صدام على البعث والحكم مصفيا الباقين عام 1979. ولتمويل هذا الجهاز بشكل مستقل عن الحزب، التجأ صدام وابناء المجيد وابراهيم، الى السطو المسلح والاختطاف وجمع الفدية والابتزاز. ولذا فإعادة فتح الملفات القديمة وادراج جرائم ما قبل انقلاب 1968، في لوائح اتهام صدام ومجموعته، سيلقي بكثير من الضوء على تاريخ وأصول «تقليد الخطف» تعاون عصابات الأجرام مع الجهاز السري للبعث، خاصة وان هذه العصابات، مثلما تقول مصادر الأمن العراقية، تستخدم الأساليب والتكتيكات التي ابتكرها صدام وعصاباته قبل اربعين عاما.