قمة السلام والسلامة للأمتين في رحاب مكة

TT

بعد مبادرته التي هي الحل الذي لا حل غيره، تأتي القمة الاسلامية الاستثنائية التي ارادها مزيجاً من الروحانية والسياسة، ومن اجل ذلك حدد مكة المكرمة مكاناً لانعقادها يومي 7 و8 ديسمبر (كانون الاول) الحالي، لتكون قمته بالمعنى التاريخي للكلمة. وهكذا فإن عبد الله بن عبد العزيز الذي أمكنه كولي للعهد جمع الملوك والرؤساء العرب في القمة الدورية الثانية (اواخر مارس/ اذار 2002) التي استضافها تجييراً الرئيس الإماراتي (الراحل) الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في بيروت، يسعى منذ ان غدا الملك وحامل صفة خادم الحرمين بعد المغفور له الملك فهد بن عبد العزيز لجمع الأمة الاسلامية على كلمة سواء، تكون في الحد الادنى مثل الإجماع العربي على أمر من النادر تحقيق إجماع عليه.

زمن انعقاد القمة الدورية العربية الثانية كانت الحالة العراقية هي المشكلة الطارئة، اضافة الى الحالة الفلسطينية التي هي المشكلة الدائمة التي تتوارثها الاجتماعات والمؤتمرات العربية منذ اكثر من نصف قرن حافلة سنواته بالصدمات والمغامرات والمؤامرات. ومع ذلك واستناداً الى الحنكة والحكمة والاحتكام الى الرؤية الموضوعية لواقع الحال الاقليمي والدولي امكن عبد الله بن عبد العزيز اضفاء التهدئة على المشاعر من جهة وتقليص نسبة المرارة في النفوس من جهة اخرى، فجاء الإجماع على رؤيته للصراع العربي ـ الاسرائيلي لتكون مبادرة لا تحفظات عليها ولا تراجعات عنها، يؤكد فعالية الاحتكام الى الموضوعية في العلاج. كما جاءت لحظات خاطفة من العناق والمصارحة مع العراق الصدَّامي تشكل بداية محاولة لتقليص نسبة المرارة في النفس الخليجية الناشئة عن الاجتياح العراقي للكويت يوم الخميس 2 اغسطس (آب) 1990 وما تلا الاجتياح من اجتهادات واقترافات. وقد تمثلت اللحظات الخاطفة المشار اليها في شخص عزت ابراهيم الدوري، الذي كان عجز الدولة الأعظم عن العثور عليه بينما رفاقه الآخرين، وعلى رأسهم كبيرهم صدَّام قيد المحاكمة، يشكل علامة استفهام كبرى الى جانب علامة الاستفهام الاخرى المتعلقة بالعجز المتواصل عن العثور على بن لادن والظواهري. ثم جاء لغز افتعال اعلان وفاة الرجل في مكان ما لم يتم تحديده، وهل هذا المكان في العراق او سورية وتزايُد الشكوك في الاعلان، الذي تزامن مع الخطاب التصعيدي للرئيس بشَّار الأسد ضد الثنائي الوارث للزعامة الحريرية فؤاد السنيورة وسعد الدين الحريري، ليشكِّلا علامة الاستفهام الأكبر. اما في زمن انعقاد القمة الاسلامية الاستثنائية، فإن الحالات تكاثرت وغدا المضاف من هذه الحالات بخطورة الحالتين السابقتين. هناك الحالة الحريرية، والحالة اللبنانية الداخلية، والحالة اللبنانية ـ السورية، والحالة السورية الداخلية، والحالة السورية ـ العراقية، والحالة السورية ـ الايرانية، والحالة الايرانية ـ النووية، والحالة التركية. كما هنالك الحالة الباكستانية والحالة الاندونيسية والحالة الماليزية والتي تشكل بداية اختراق للصمود الاسلامي امام الهجمة الاميركية ـ الاسرائيلية التي تستهدف استكمال التطبيع العربي مع اسرائيل من خلال البوابة الاسلامية. وعلى هذا الاساس، فإن قمة عبد الله بن عبد العزيز مفروشة طرقاتها بالأشواك الى جانب السجاد الأحمر الذي سيسير فوقه اهل القرار في امة المليار ونصف المليار، بمن فيهم الرئيس بشَّار الذي أشعلت بعض مضامين خطابه يوم الخميس 10ـ 11 ـ 2005 بداية حرب باردة مزدوجة: لبنانية ـ سورية وسورية دولية، والظاهرة الايرانية الجديدة الرئيس محمود احمدي نجَّاد الذي الهب المشاعر الدولية بالكلام الذي اطلقه يوم الجمعة 28 اكتوبر (تشرين الاول) 2005 في احتفال خطابي في جامعة طهران لمناسبة «اليوم الخميني للقدس»، الذي اختاره الزعيم الديني الراحل عام 1979 وبحيث يكون يوم الجمعة اليتيم من شهر رمضان. وفي هذه المناسبة قال الرئيس نجَّاد امام حشد من اهل القرار الايراني يتقدمهم مرشد الجمهورية آية الله خامنئي، وبعدما كان قبَّل يد المرشد للمرة الثانية بعد التقبيل الاول يوم تأدية اليمين الدستورية، ان الحل هو في ازالة اسرائيل. وكما ان الرئيس بشَّار كان في خطابه ملتزماً كل الالتزام بمفهوم والده الرئيس الراحل حافظ الأسد للعلاقة اللبنانية ـ السورية، فإن الرئيس محمود احمدي نجَّاد كان ملتزماً بنظرة الإمام آية الله الخميني للوجود الاسرائيلي. وهما التزامان يتقاطعان مع الظروف والتطورات والتداعيات في المنطقة بعد رحيل الإمام الذي ارتضى وقف القتال مع العراق مقابل تطبيع للعلاقات مع اميركا يأخذ في الاعتبار الوزن الايراني في الخليج ويُقنع الاماراتيين بضرورة اعتبار الجزر المحتلة من ايران بمثل الاسكندرون المقتطَعة من سورية مستعملاً عبارة تتضمن قوله إنه بهذا الإرتضاء «كمن يتجرع السم»، وبعد رحيل الرئيس الأسد الأب الذي ارتضى مشاركة اميركا بوش الأب الحرب على العراق مقابل التسليم الدولي بالدور السوري في لبنان والتراضي برعاية اميركية دولية في ما يتعلق بالجولان المحتل. والقول بأنهما يتقاطعان لأن الادارات الاميركية المتعاقبة أخلَّت مع ايران على نحو إخلالها مع سورية، فهي لم تكتف بعدم ترجمة الوعد الى عهد، وإنما قررت على ما افادت التطورات حذف الطرفين السوري والايراني كرقمين ثوريين ووطنيين صعبين او امركتهما بالرضى. ومن هنا جاءت القمة الاسلامية الاستثنائية او قمة عبد الله بن عبد العزيز الذي اغتنم مناسبة موسم الحج الماضي لإطلاق الدعوة اليها لتشكل فرصة من المهم الاستفادة منها، وذلك لأن الحالتين السورية والايرانية هما المشكلة كما انهما المدخل الى الحل. وفي تقديرنا إن هذه القمة هي طريق السلامة للرئيس بشَّار وللحكم الايراني عوض الاستسلام الذي قد يتم فرضه على كل منهما وباسلوب يختلف عن الآخر، خصوصاً ان الرئيس الايراني السابق محمد خاتمي الذي كان دعا الى قمة اسلامية استثنائية تحقق السلامة المشار اليها ويمكنه توريثها الى من يخلفه لم تنعقد واثبت عدم انعقادها رفض الاكثرية الاسلامية للتوجهات الايرانية وبالذات للحدة في مقارعة اميركا والمجتمع الاوروبي عموماً. وهذه السلامة تحتاجها ايران الراهنة اكثر بكثير من ايران الخاتمية التي هي بالمقارنة مع ما يطرحه الرئيس محمود احمدي نجَّاد تبدو صاحبة رؤية تسالمية بينما ايران الراهنة تجنح نحوالتحدي المستند الى فورة شبابية احياناً. اما بالنسبة الى الحكم البشَّاري فإن قمة عبد الله بن عبد العزيز هي قمة انقاذ من شأنها ان تشكل له الغطاء الذي يصونه من القرارات الدولية التي ليس من السهل مواجهة ذيولها، خصوصاً ان التعويل على القمة العربية الاستثنائية التي كان حليفه الرئيس حسني مبارك يريد عقدها في شرم الشيخ وبدا الانعقاد على شيء من الاستحالة العربية، جاء صادماً على قمة لم تنعقد وبمثل التعويل الصادم على قمة لا تنعقد، ونعني بها القمة الاستثنائية التي كان الرئيس بشّار يتطلع الى عقدها في دمشق لتغطي قرار الانسحاب العسكري من لبنان وتطفىء نيراناً تتعلق بالفاجعة الحريرية، وما يقال حول صلات سورية امنية وسياسية فيها.

اما كيف تشكل قمة عبد الله بن عبد العزيز السلامة لكل من الوضعين السوري والايراني، فمن خلال مبادرة اسلامية تكون توأماً للمبادرة العربية، يطرحها خادم الحرمين الشريفين وتحمل في ثنايا مفردات كلماتها او بنودها وبالذات ما يتعلق بالعراق ولبنان والفلسطينيين والتسوية العاقلة للصراع مع اسرائيل، ما يجعل المجتمع الدولي يرحب بها. وبطبيعة الحال فإن هذه المبادرة عندما تحظى بالإجماع، وهذا لمصلحة الكل وبالذات لمصلحة الحكمين السوري والايراني، يخرج الجميع من القمة المنعقدة في رحاب مكة المكرمة، حيث الكعبة المشرّفة مطمئنين الى ان الأمور لن تتطور نحو الأسوأ، حامدين الله الذي انعم عليهم بالتروي والتعقل شاكرين لعبد الله بن عبد العزيز قمته الاسلامية بمثل شكر العرب منهم عام 2002 لرؤيته التي انتهت مبادرة تبنوها بالإجماع، وكانت كفيلة برأب الصدع الذي من دونه لا أمل يرتجى بالاستقرار والتعايش مع الواقع.. وعلى قاعدة السلام والسلامة للجميع.