عندما يجري الخلط بين الجلاد والضحية

TT

ليس هناك من ظاهرة عبر التاريخ المعاصر (على الأقل) أكثر خزيا من ظاهرة بعض الفنانين الذين لا يخلطون التجارة بالفن بالكذب، فقط، بل مشاركة الحاكم الجلاد جريمته واختزال الموهبة الفنية النبيلة الى موقف سياسي رخيص بالانضواء تحت لواء الدكتاتورية تحت مسميات شتى وتخريج السلوك الشخصي على أنه استجابة لتطلع قومي ليس غير الدكتاتوريات المعروفة من يجيد التلاعب به والدفع باتجاهه نظرا لما يجد له من أصداء في نفوس قطاعات واسعة من الجماهير وقد استبد بها اليأس والاستبداد معا، وخضوعها لعملية غسل الدماغ المتواصلة من خلال إعلام ملحاح وتكراري يكذب على مدار الساعة، إعلام يلتقط اللحظة القومية في أشد حالاتها اشتعالا ليعيد انتاجها بحماسة قبلية زاخرة بالشعارات والمزايدات وقلب الحقائق والهزء بعقول الجميع، وفق مبدأ مترابط يجمع بين القمع والديماغوجيا، على هدي الفاشية التقليدية التي أذاقت شعوبها والشعوب التي استعمرتها بالحرب والعدوان مرارات العسف والمصادرة والتأطير متعدد الأشكال.

كلنا يعرف، والأكبر سنا يتذكر، الفيلق الأممي الذي ضم خيرة أدباء وفناني العالم المتطوعين لنصرة الجمهورية الإسبانية ضد الحرب العنصرية الفاشية التي شنها الدكتاتور الإسباني فرانكو. لم يكن المخرج السينمائي لويس بونويل سياسيا إلا بالقدر الذي يستجيب فيه، كفنان، لنبض العالم من حوله ويتحسس نقاط ضعفه ليحسن تقدير أين يتجه بمواقفه، لكنه وجد نفسه، وهو السوريالي، منخرطا في صفوف المقاومة أثناء الحرب الأهلية الاسبانية (1936) مهربا للأسلحة عبر الحدود. ويذكر في مذكراته، الشاعر الفرنسي لويس أرغون فيصفه، أثناء مرحلة المقاومة، بأنه كان منظما للنشاطات الشعبية ضد الفاشية من طراز فريد، بينما شكل عشرات الكتاب والفنانين المشهورين ذلك الفيلق الأممي الذي تطوع للقتال الى جانب الجمهورية الفتية.

في العراق ثمة حرب أهلية، فعلا، وقد تكون حربا غير منظورة ولم ير إليها العالم بعين محايدة، وغالبا ما تقلب صفحة هذه الحرب لتنشر بدلا عنها صفحات أخرى ارتباطا بدول ومراكز قوى متنفذة دوليا، كلما تعلق الأمر بالمصالح والأولويات. المفجع في الأمر هو أن الدولة في العراق بدلا من أن تكون طرفا محايدا لتنظيم علاقات الناس وشؤونهم بالحق والتساوي، فإن هذه الدولة (= إقرأ العائلة الحاكمة) هي الطرف الأساسي في خوض هذه الحرب الأهلية بمواجهة غالبية فئات وطوائف واحزاب العراق كافة! لكل مرحلة، بلا شك، ظروفها واستحقاقاتها، ولست في وارد استنساخ التجارب والسير على خطى السابقين، إنما يمكن دراسة مواقف تاريخية واستنباط الجوهري الذي يمكن أن يعيننا على أن نرى بوضوح.

إن شهادات فناني العالم حول أقسى مرحلة شهدها القرن العشرون، مرحلة صعود الفاشية في ايطاليا والنازية في المانيا، تمثل أرشيفا اخلاقيا (على الأقل) يمكن الرجوع إليه لقراءات شهادات الفنانين وكيفية التعامل معهم، أما عندما يكون الفنان «شاهد ما شافش حاجة» مثل عادل إمام، فالمسؤولية أكبر عندما ينبثق سؤال يتعلق بمسؤولية الفنان إزاء أزمات ومنعطفات سياسية واجتماعية واقتصادية خطيرة تواجه شعبا شقيقا.

المثقف والسياسي بينما يصرخ المثقفون العرب بوجه المؤسسة السياسية لكي لا تتدخل بشؤونهم وطبيعة أدواتهم المختلفة عن شؤون وأدوات السياسي، يأتي البعض ليسلم أوراقه، طائعا، بيد السياسي مترسما خطاه معجبا به ومتضامنا معه ويزور المقهى الذي كان يرتاده أيام «نضاله السري» في الطريق الى لقائه! إذا كان ما يحصل ناجما عن وعي الفنان وإصراره وترصده فإنه وعي ناقص على الآخرين، ومن حقهم، تبصيره والاعتراض على فعلته، مثلما أعطى لنفسه الحق في أن يتخذ هذا الموقف السياسي أو ذاك، رغم أن هذا الموقف ليس شأنا شخصيا كالسفر والزواج، بل هو موقف يصب في طاحونة اللحم البشري الدائرة في بلد، كالعراق، منذ سبعينات القرن الماضي.

أما إذا كان ما يحدث نتيجة غياب الوعي، فلم تزل المشكلة قائمة، وإن اتخذت شكلا آخر: الفنان في حالة انعدام وعي تدفعه الى اتخاذ قرارات خطيرة تتعلق بحياة ومصائر ملايين الناس.

لقد شهدت الحياة الثقافية، مؤخرا، أحداثا تتعلق بمنع ثلاث روايات، وقبلها رواية وليمة لأعشاب البحر، فقامت الحرب بين عدد من المثقفين المصريين ووزير الثقافة ونظمت واحدة من أكبر حملات التضامن مع كتاب الروايات المصادرة، ويندرج الأمر تحت مبدأ حرية التعبير الذي يتبناه غالبية المثقفين والفنانين العرب من أقصى مغربنا إلى أدنى مشرقنا، بينما لم يجد المثقفون العراقيون من يتضامن مع الألوف منهم بين مهجر ومهاجر ومنفي وقتيل ونزيل زنزانة ومتخف بعيدا عن الأنظار ومعتزل الحياة الثقافية، وهؤلاء طليعة ما يناهز الملايين الأربعة من عموم المنفيين والمهجرين في مختلف أصقاع العالم! الغريب أن بعض المتحمسين لمسألة حرية التعبير والموقعين على لوائح التضامن مع زملائهم، من أبرز المتحمسين لصدام حسين، منهم من التقاه شخصيا ومنهم من كتب عن بوابته الشرقية ومنهم من يشد حقائبه ومنهم من ينتظر! ما هذه الفورة التضامنية مع حاكم دكتاتوري ينكل بشعب شقيق ويذيق مبدعيه من مختلف المدارس والاتجاهات والآيديولوجيات أبشع صنوف المصادرة والمنع الذي يصل حد القتل؟

تدخل في الشؤون الداخلية يقولون: لا، نحن لم نتضامن مع صدام حسين بل مع أطفال العراق وشعبه.

ونقول (سأوضح بعد بضعة أسطر من نحن) إن هذا النوع من التضامن مضر بأطفال العراق وعائلاتهم لأنه يبرر الدكتاتورية ويمنحها الشرعية كدولة يمكن التعامل معها مثل بقية الدول في العالم، ومن يريد أن يتضامن مع أطفال العراق فعليه أن يفتح ملف هؤلاء الأطفال والتأكد من حقوقهم بالطفولة والتعليم والتأهيل والعيش بأمان بين آبائهم وأمهاتهم وأخوتهم وأصدقائهم من دون تعرض لهذه الحقوق الأساسية، حتى لو تطلب الأمر فتح هذا الملف مع صدام حسين شخصيا، فهل من يجرؤ على اجتراح هذه المأثرة التضامنية؟

.. وتقولون نحن لا نتدخل بالشؤون الداخلية للعراق! حسنا، ألا يعني الجلوس مع صدام وإبداء موقف تضامني، مع أطفال العراق، عبر الدكتاتور الذي فعل ما فعل بهم وبآبائهم وإمهاتهم، تدخلا بالشؤون الداخلية للعراق، إنه أبشع شكل من أشكال التدخل بهذه الشؤون عندما تعبرون على الجثث والزنازين المعلومة وغير المعلومة وتسيرون في الشوارع التي تخلو من مواطنيها الأصليين الضائعين على أرصفة العالم الكئيبة.

من نحن؟

نحن حوالى أربعة ملايين منفي عراقي بسبب مباشر يتعلق بالقمع ومصادرة الرأي، ولسنا حفنة مشاغبين أو عصابة إرهابية أو حزب سياسي معارض للحكومة، رغم أن بيننا من ينتمون لأحزاب سياسية، وقضيتنا معمرة من عمر وصول صدام حسين الى السلطة، وليس لنا أية طموحات سياسية واقتصادية بطرة أو مثالية نحن، بخلاف ما تمناه محمد صبحي في أن تعيش مصر وشعبها تحت الحصار والدكتاتورية ليتطور فيها الإبداع كما هو الحال في العراق، نتمنى أن نعيش في بلد، كمصر، التي تتمتع بقضاء مستقل وأحزاب وشخصيات معارضة وحركة ثقافية وفنية تسمح بالتفتح والمنافسة والنقد، فالهامش في مصر ديمقراطي بينما المتن في بغداد فاشي حتى العمى. عرض محمد صبحي مسرحيته ورغدة التقت الرئيس القائد وعادل إمام زار هذا الرئيس برعاية شركة تجارية (هل تحول الفن إلى بزنس أم أصبح جزءا منه)، ويبدو أن السوق العراقية، كالحرب، لا تشبع فإنها تأكل حتى كبار الفنانين مثلما تأكل الحرب صغار الجنود.، ولا نعرف كيف تبرع عادل إمام بريع المسرحية لصالح الشعب العراقي الذي يدفع ثمن التذاكر ليشاهد مسرحية على أن تعود إليه نقوده على شكل تبرع، ولماذا لا يتبرع عادل إمام من ماله الخاص، وهو أغلى نجم عربي على الساحة؟؟

شعب العراق وأطفاله يحتاجون إلى دعم من نوع مختلف، واضح وبسيط: إدانة الدكتاتورية التي جرت ما جرته من حروب غير ضرورية وما تسببت به من حصار وتجويع، ثم ما قدمته الى الولايات المتحدة من أسباب الوجود العسكري والتحكم بخيرات المنطقة وثرواتها إثر حرب الخليج الثانية، وما تبعها من عمليات القصف الجوي بلغ ضواحي العاصمة، بغداد، نفسها على ضوء برنامج واضح لتعطيل القدرة العراقية، حاضرا ومستقبلا، فالخسائر العراقية على صعد مختلفة ليست خسائر صدام حسين شخصيا، إنما هي خسارة الشعب العراقي لقواه الاقتصادية والعسكرية والتقنية. ويجمع الكثير من المحللين، بمن فيهم الأميركيون، على أن حصار وقصف العراق تحول الى ورقة بيد صدام حسين يلوح بها بوجه العالم على أنه ضحية تستحق العطف والتضامن ويبدو أن هذا قد انطلى على كثيرين ومنهم ساسة وفنانون مصريون، وهذا وحده كاف ليكون مدعاة للأسف والغضب معا.