ببغاوات التنوير الحديث

TT

مع كل ما قيل عن التنوير العربي في الخمس الأواخر من القرن العشرين ومع كل ما قيل في اول القرن المنصرم نسي المتحمسون للتنوير الحديث ان يدرسوا بتعمق تجربة تنويرية رائدة عرفتها الثقافة العربية في قرونها الهجرية الاولى ونعني رسائل اخوان الصفا التي كتبها مفكرون اسلاميون لتحقيق التغيير بالعلم والمعرفة بعد ان فشلت كافة الثورات الدموية التي ارادت تبديل العالم بالعنف.

وأهم ما في تلك الرسائل ان اصحابها لم يكونوا يلهثون خلف الشهرة كمنوري هذه الايام الذين يملكون الاستعداد لاطفاء انوار العالم كلها اذا نزلت مقالاتهم التنويرية من دون صورة، او تأخر استدعاؤهم للراديو والتلفزيون.

وخبر اخوان الصفا ورسائلهم كما اورده ابو حيان يدل على ان كتمان اسماء المؤلفين كان متفقا عليه منذ البداية لتتم قراءة الرسائل كتيار تنويري متكامل ولو شاء كل واحد من المؤلفين ان يضع اسمه على رسالته لفعل، فالتقية ليست وحدها التي دفعتهم للكتمان، فاسماء بعضهم كانت معروفة في زمن ابي حيان الذي يذكر منهم البستي، والزنجاني، والمهرجاني، والعوفي، والمنطقي.

اما عن ظروف تأليف الرسائل وسببه فيقول التوحيدي عن ذلك في الامتاع والمؤانسة: «وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة، وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهبا زعموا انهم قربوا به الطريق للفوز برضوان الله، وذلك انهم قالوا ان الشريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات ولا سبيل الى غسلها وتطهيرها الا بالفلسفة وزعموا انه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية الاسلامية فقد حصل الكمال، وصنفوا في ذلك خمسين رسالة في جميع اجزاء الفلسفة وافردوا لها فهرسا وسموه رسائل اخوان الصفا وكتموا فيها اسماءهم وبثوها في الوراقين».

والرسائل اكثر من خمسين مع الاحترام لابي حيان، فهم يذكرون في موضع من الرسائل ان عددها بلغ احدى وستين رسالة، ومعظم الروايات انها اثنان وخمسون على عدد اسابيع السنة.

والفرقة الاسماعيلية تنسب هذه الرسائل الى احد ائمتها استنادا الى نص لمؤرخ اسماعيلي من القرن التاسع هو ادريس عماد الدين، لكن نص ذلك المؤرخ لم يصمد طويلا، خصوصا بعد ان اكتشف ايفانوف ان الدعاة الاوائل لتلك الفرقة لم يعرفوها، وانها لم تنتشر بينهم الا بحدود القرن الثامن الهجري، أي بعد الامام السابع باكثر من خمسة قرون.

وايفانوف هذا حجة في الدراسات العقائدية، والمذهبية وهو ليس الوحيد الذي شكك بنسبتها للأئمة فهناك من ينسبها الى الاندلس، وتحديدا للحكيم المجريطي القرطبي ناهيك عن الخائفين من مضامينها والذين ينسبونها للمجوس، واحيانا للقرامطة وغيرهم من الفرق التي بثت الذعر في العالم الاسلامي.

وليس المهم من كتبها واذاعها فتلك مسألة متروكة للباحثين، لكن ظاهرة تنويرية بهذا الحجم ما كان يجب اسقاطها من تراث التنوير العربي الذي شهد كما تثبت تلك الرسائل محاولات للتغيير عن طريق المعرفة والعلم والفلسفة، فالحضارة الاسلامية في مختلف عصورها افرزت فئات متنورة تؤمن بالتراكم والتغيير المتدرج ولم يكن العنف هو سيد الموقف دائما كما يوحي بذلك بعض الذين بالغوا في دور حركات الزنج والقرامطة وشوهوا انجازات الحركتين على الصعيد الاجتماعي لتقتصر المعرفة بهما على الفظائع والمذابح وليكتمل تاريخ العنف والدم.

ان التنوير التراثي ظاهرة حقيقية، وليست مجازية لكنها لم تبرز كما يجب لغاية في نفوس مستشرقي المراحل الاولى الذين كرسوا صورة العربي العنيف والعدواني، وان كان المستشرقون قد فعلوها لاغراض استعمارية معروفة، فياليت شعري ونثري ما بال بعضنا ما يزال يتابعهم في كل ما قالوا، وصنفوا ويبتسم مزهوا بدور الببغاء.