العرب والعالم.. حُب بالإكراه لأميركا

TT

لم يكمل عمر الادارة الجديدة مائة يوم بعد، ولكن الصراخ العربي يعلو ويقدم اشارات متناقضة تماماً، شقها الاول يقول: لقد حسمت الامور وهذه ادارة معادية (وماذا بعد؟)، والرأي الثاني يرى ان الادارة لم ترسم سياستها حتى الآن وهي قابلة للتجاوب اذا عرف العرب ماذا يريدون، واذا عرفوا كيف يتم التعامل مع واشنطن، وطبقوا معرفتهم ايجابياً، وخططوا للمستقبل. هناك الكثير من الامور التي تؤدي الى هذه المواقف العربية من الولايات المتحدة، منها مثلاً الاختلاف التام بين العرب والاميركان في تقييمهم لمؤسسة الرئاسة، ولدور ووزن البرلمانات، وطبعاً لاهمية الرأي العام وسطوة ودور الناخب دافع الضرائب.

ليس العرب لوحدهم يعانون من هذه الاعراض، تناقض في الرؤى لاميركا وسياستها واختلاف في التقييم، بل معظم دول وشعوب العالم الان تتخبط على درب الغرام في العلاقة مع واشنطن، الذي لا تجد حياداً عنه «الآن» سابقة الذكر تشير الى حقبة ما بعد انهيار الكتلة الاشتراكية ونهاية الاتحاد السوفيتي، وايضاً الى بداية عهد الادارة الحالية في واشنطن... هذه الادارة وخلال ستين يوماً من عمرها الذي سيطول اربع سنوات، تشابكت مع روسيا في قضية طرد دبلوماسيين (جواسيس) متبادل كما ساد ايام الحرب الباردة، وصدمت احدى طائراتها التجسسية طائرة صينية وأسقطتها ثم هبطت الطائرة الاميركية اضطرارياً في مطار صيني ولا يعلم احد كيف سينتهي هذا الفصل. واعلنت الادارة الجديدة عزمها الانسحاب من بروتوكول دولي كانت قد ايدته (كيوتو) لتنظيم وضبط الحرارة والدخان الناتج من المصانع مما اثار كل الدول الاوروبية، التي لم تخف سخطها او تخف تهديدها اذا لم تتراجع الادارة عن رؤيتها، لكن الادارة تقول ان مصلحة الاقتصاد الاميركي قبل كل شيء، وتقر تلك المصلحة بعدم الانفاق على تنظيف الصناعة... اما على الصعيد العربي فيلاحظ على الفور ان الادارة تتخبط كون عناصر سياستها لم تكتمل بعد، فهي تريد تجميع العرب في تحالف مشترك معها ومع اوروبا ضد نظام الرئيس صدام حسين، وتعلن من جهة اخرى انها لا تريد التدخل في الصراع العربي الاسرائيلي، ثم تتدخل في مطالبة الرئيس الفلسطيني بإعلان وقف العنف، هذا مع العلم ان سياستها المعلنة للان كانت التعامل مع المنطقة بشكل متكامل! عموماً علينا الان تذكر ان الادارة لم تنته بعد من شغل المناصب وما زالت لجان الكونجرس تستجوب الموظفين قبل قبولهم، والكونجرس هذا، للتذكير فقط، ليس في قبضة الرئيس ويمكنه اعاقة التوظيف وكل سياسات الادارة، وهو (الكونجرس) في قبضة اسرائيل المهيمنة على اراء كثرة من نوابه عبر الاقناع والمثابرة والمصالح القائمة ـ على الاقل ـ من هيمنة اللوبي اليهودي على الاعلام المتحكم بدوره في الرأي العام الاميركي. يشار ايضاً الى وجود منافسات بين اقطاب الادارة للهيمنة على صنع القرار الخارجي والداخلي عبر الرئيس (بين وزير الخارجية كولن باول ونائب الرئيس تشيني الذي يطمع لدور اشبه برئاسة الوزراء)... هذا التنافس يفسر التضارب في التصريحات تجاه الشرق الاوسط، وهو الذي اتاح للوبي الصهيوني وجوقة شارون استخراج اقوال متناقضة روجوا بمهارة لما يناسبهم منها لتحميل الادارة والرئيس تحديداً ما لم يعنه... سأقدم هنا ثلاثة امثلة من هذا الاسبوع قبل استكمال هذا التحليل: ـ طلب العرب والسلطة الفلسطينية بشدة من الادارة التدخل ضد التصعيد الشاروني ولاستعادة التفاوض، ولكن شارون وجوقته واللوبي اليهودي كان قد افهم الادارة بالطرق الدبلوماسية والاعلامية والتشريعية الاميركية انه يريد السلام ويبحث عن فرصة ولا يريد ايذاء الشعب الفلسطيني ومستعد للتفاوض فور ايقاف الرئيس عرفات للعنف. هكذا وبرغبة من الطرفين في التوصل للسلام ـ كما يبدو ـ تحدث الرئيس وقال انه طلب من شارون عدم الاستفزاز وان يسهل حياة الفلسطينيين، ثم طالب عرفات بالمطالبة والمناشدة لشعبه لوقف العنف... من يراجع نص البيان الرئاسي الرسمي يجد انه اقسى على اسرائيل بمرات مما هو على الفلسطينيين، لكن وكالعادة، فإن الاسئلة الموجهة للرئيس جاءت من طريق واحد وكأنها طلب للتوضيح فأوضح الرئيس بكلام موسع، ولم توجه اليه اسئلة من الطريق الاخر لتوضيح ما يعنيه حول اسرائيل وما يريده من شارون وما سيفعله ان رفض شارون، وبالتالي لم يتحدث عن تلك الجهة. واخذ الاعلام اياه الفقرات المضادة للرئيس عرفات ولم يطالع احدهم ما قاله الرئيس وما كان قد اعده سلفاً لهذه المناسبة (أو كتبه له مستشاروه). من يريد الاستمتاع بالقراءة بين السطور والتعلم عليه مراجعة موقع البيت الابيض على الانترنت www.whitehouse.gov)) ومراجعة بيان ومؤتمر صحفي يوم التاسع والعشرين من الشهر الماضي.

ـ بمناسبة الانترنت فقد بحثت في موقع وزارة الخارجية www.state.gov)) عما اغضب البعض بأن المتحدث بأسمها (باوتشر) «اعلن انزعاجه من كلام الرئيس بشار «في القمة وتشبيه اسرائيل بالنازية». لم اعثر في كل المؤتمر الصحفي المذكور على اشارة واحدة من باوتشر للرئيس السوري بالاسم او القصد، واقرب شيء كان قول باوتشر رداً على احد الاسئلة اياها، «اعتقد ان الوزير ـ باول ـ قال في الخصوص ما اعلنه على العموم بالقلق من بعض اللغة التي وردت في البيان الختامي للقمة العربية. المعروف ان كلام الرئيس الاسد لم يذكر في البيان، ولكن فلاسفة الاعلام العرب فسروا ما قاله باوتشر بانه ضد الرئيس السوري. ـ المثال الثالث في هذا المجال هو ما لاقاه الرئيس حسني مبارك وقبله الوزير عمرو موسى في واشنطن من تعمية على مهمتهم ومن اشغال لهم في الثانويات المجهزة سلفاً كون اللوبي الصهيوني لا يعمل موسمياً وانما لا يكف عن العمل، ويصعد عمله في مواسم الزيارات والازمات. وجد زوار واشنطن ان التهم جاهزة لهم بتشجيع الاعلام المصري على معاداة السامية! وبانهم يشجعون استمرار الانتفاضة (العنف في عرفهم) وبأن مصر تريد المقاطعة ولاتريد اعادة السفير لاسرائيل، وغير ذلك من التهم المعدة سلفاً قبل وبعد زيارة شارون لواشنطن. لا أدري حجم المام الرئيس بوش بجوانب الصراع العربي الاسرائيلي، ولكن يلاحظ وجود فوارق بين ما يعلنه رسمياً، في أي قضية كانت، اثر مراجعته لمستشاريه، وبين ما يقوله من جعبته مضطراً، وهو بذلك اشبه بالرئيس ريجان مع فارق السن والفرق بين انتماءات المستشارين. لكن يمكنني بسهولة تصديق ان الرئيس بوش (على الاقل حتى اجتماعه مع الرئيس مبارك والملك عبد الله) كان لا يعرف عمر اسرائيل او ظروف اقامتها او اذا كانت الضفة والقطاع اراضي محتلة ام متنازعاً عليها بين الدولة اليهودية الوحيدة وسط العرب، وبين الدولة الفلسطينية التي ترسل افراد جيشها لعمليات ارهابية. يمكن ايضاً تخيل تهيب الرئيس من الانخراط في القضية بعد ان سمع عن فشل سلفه كلينتون، وعزمه توكيل الخارجية او نائب الرئيس بالامر.

علينا تذكر ان ايام مؤتمر مدريد كانت الاخيرة التي دار فيها الحديث عن اراض محتلة وتطبيق قرارات دولية. بعد مدريد جاءت ايام اوسلو واتفاقياتها التي لم تحدد مرجعية اقليمية او دولية في حالة الخلاف، والتي وقعها الطرف الفلسطيني وحيداً مع اسرائيل ـ بدون اميركا ـ والتي اوحت عبر التفاوض والممارسات ان الامر مساومة على الضفة والقطاع وعلى احتمال اقامة الدولة، ومن هذا المنطق وتدريجياً زرع الصهاينة في المخ العالمي عبر سنوات انهم يقدمون للفلسطينيين الارض، ويستعدون لتقبل دولة فلسطينية، وذلك بدون اخذ مقابل سوى القنابل والقتل، بل ان بيرس قال هذا الاسبوع ان اسرائيل هي الصديق الوحيد للفلسطينيين. المقصود بذلك كله هو الاشارة الى ان العالم لديه مشاغله ايضاً، ولايعرف بالضرورة كل التفاصيل في الصراع العربي الاسرائيلي، وانما يعتمد على ما يسمع ويرى، ولا يفهم زعل فلان او حرد علان عن الكلام لان العقلية العربية غير مفهومة خارج الوطن العربي، تماماً كما ان العقلية اليابانية او الاوروبية او الاميركية غير مفهومة في الوطن العربي. لا بأس من افتراض ان السياسة الاميركية بمجملها «ليست معنا» ولكن علينا سؤال وجواب انفسنا: ماذا نريد من واشنطن؟ هل مهدنا لتنفيذ رغبتنا عبر تفهم اسلوبهم، او تفهيمهم اسلوبنا؟ هل تُجبرنا واشنطن على تبني خطها، ام اننا نركض خلفها مطالبين بعشرات الاشياء المصيرية؟ ماذا يفيدنا اكثر، الصدام الاجوف ام التفاهم؟ العلاقة الاميركية الاسرائيلية قائمة على خنوع اسرائيل وادعائها التشابه بالديمقراطية والتحايل على الولايات المتحدة عبر الاعلام وتشابكات اخرى مصالحية واستراتيجية، فعلى ماذا تؤسس العلاقات العربية الاميركية؟