العدو الأميركي الجديد: الصين، الهند، العالم الإسلامي

TT

في خطاب القسم الدستوري الذي القاه جون كينيدي العام 1961، والذي اصبح اكثر شهرة من الدستور الاميركي نفسه، قال الآتي: «نقول لتلك الدول التي تجعل من نفسها خصوماً لنا، اننا لا نتقدم بتعهد بل بطلب: هو ان يبدأ الجانبان مجدداً البحث عن السلام قبل ان تغمر الانسانية جمعاء قوى الظلام التي يطلقها العلماء في تدمير منظم او انتحاري». كان جون كينيدي يتحدث آنذاك عن خصم واحد هو الاتحاد السوفياتي، الذي دخل مع الولايات المتحدة في سباق انتحاري نحو التسلح. واذ يتأكد الآن شيئاً فشيئاً ويوماً بعد يوم ان لا قيام للاتحاد السوفياتي ضمن الهيكل الروسي القائم، يتأكد في الوقت نفسه ان الصين سوف تكون الغريم الجديد للدولة الاميركية المهيمنة وحيدة في سياسات العالم. وقد اعاد حادث الطائرة الاميركية في الصين يوم الاثنين الماضي الى الاذهان حادث طائرة «يو ـ 2» للتجسس التي اسقطها الاتحاد السوفياتي فوق اراضيه العام 1960 في ذروة الحرب الباردة. وكان الرئيس الاميركي الجديد قد بدأ ولايته الحالية باصطدامين متفجرين مع روسيا الاتحادية والصين الشعبية. وقد ارسلت الصين كبير دبلوماسييها الى واشنطن منذ شهر في محاولة للسيطرة على تدهور العلاقة المشتركة والخاصة بين البلدين، غير ان تلك الزيارة لم تؤدِ الا الى المزيد من التدهور بسبب موقف الادارة الجديدة.

في اقل من ثلاثة اشهر فتح جورج بوش الابن ابواب الازمات السياسية مع جميع الخصوم القدماء، ولا يمكن ان نعتبر الصين خصماً في ضوء العلاقة الخاصة التي كانت قائمة بين بكين وواشنطن، والتي بدأها الجمهوري ريتشارد نيكسون في اوائل السبعينات على نحو مذهل ومفاجئ. وقد كان الهدف من انشاء تلك العلاقة يومها استغلال العداء الصيني المقيم للسوفيات وتطويق موسكو وعزلها سياسياً. غير ان الادارات المتعاقبة طورت مفهوم العلاقة مع الصين التي رأت فيها سوقاً اقتصادية ناشئة لا حدود لها في المستقبل المنظور. واعلن بيل كلينتون صراحة في ولايته الاولى ان بلاده سوف تتجه نحو الخيار الصيني او الآسيوي عبر المحيط الهادئ على حساب العلاقة القديمة مع اوروبا. كذلك كان كلينتون قد اقام علاقة شديدة الخصوصية مع روسيا بوريس يلتسين ومن بعده مع روسيا فلاديمير بوتين. فقد رأى كلينتون ان الاخطار الكامنة في روسيا ضعيفة ومشتتة اسوأ من الاخطار التي كان يمثلها الاتحاد السوفياتي في عز قوته. وها هو جورج بوش يفجر الوضع مرة واحدة في وجه الخيارين الاستراتيجيين الاكثر اهمية بالنسبة الى الولايات المتحدة: اي روسيا والصين.

لا شك ان متغيرات القرن الحالي هي غير تبدلات القرن الماضي وكذلك التوازنات العسكرية او السياسية. والقوى التي ستواجه اميركا هذا القرن هي غير القوى التي كانت في واجهتها القرن الماضي. فعلى الصعيد الآيديولوجي لم يعد هناك صراع بين الشيوعية والرأسمالية. وعلى صعيد التكتلات السياسية لم تعد المجموعة الآسيوية الافريقية قائمة الآن. فمعظم التكتلات لا تعدو كونها تجمعات اقليمية بلا ثقل دولي او تجمعات اقتصادية تنضوي كلها تحت لواء الرأسمالية ونظرية السوق. ويقول الخبير الروسي فلاديمير كوماتشيف ان القوى الكبرى المقبلة في مواجهة اميركا سوف تكون الصين والهند والعالم الاسلامي، وهي القوى التي ستملأ الفراغ الجيوسياسي الذي نشأ عن سقوط نظام القطبين، والذي استمر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية العام 1945 حتى نهاية الحرب الباردة العام 1990، وكانت الولايات المتحدة قد ملأت بنفسها الفراغ الذي نشأ في اوروبا وخصوصاً في اوروبا الشرقية التي كانت تحت مظلة حلف فرصوفيا، مما اكد هيمنتها على القرار الاوروبي بصورة عامة كما اكد المكان الثانوي لروسيا التي دبّ فيها الفساد وخسرت موقعها الامبراطوري وامتداداتها العالمية خصوصاً في المناطق الاستراتيجية والحارة كالشرق الأوسط.

ويرى فلاديمير كوماتشيف ايضاً انه اذا انزلقت روسيا الى المزيد من التفكك وخرجت دول اخرى من الاتحاد، فإن ذلك سيكون لحساب العالم الاسلامي، والصين بصورة خاصة. ومن جهته يرى المعلق الاميركي المعروف ويليام بفاف ان النفوذ الاميركي العسكري والسياسي الذي نشرته الولايات المتحدة عبر القواعد العسكرية حول العالم محكوم هو الآخر بالتضاؤل في هذا القرن. وقد اصبحت بعض الدول ترى في مثل هذه القواعد اعتداء على سيادتها واستقلالها منذ ان زال الخطر الشديد. وحتى الشعب الاميركي نفسه سوف يتساءل في غياب عدو واضح عن جدوى الاستمرار في الالتزامات العسكرية الهائلة حول العالم. لذلك يقول بفاف انه بدأ السعي بحثاً عن عدو جديد او اكثر لتبرير الاستمرار في السياسات العسكرية والانعزالية القديمة. ويصار الآن الى التركيز على صراع الحضارات، والتخوف من هجوم اسلامي شامل ضد الغرب، والارهاب الدولي، وعودة ظهور الامبريالية الروسية او الصينية، وازدياد الجريمة الدولية، واخطار المخدرات. ويرى بفاف ان ابقاء هذه السلسلة الطويلة من «الدول المارقة» هو جزء من سياسة البحث عن اعداء مع انه لا يرتكز الى مبررات مقنعة. كما ترى جماعات الضغط المؤلفة من مصانع السلاح خلف معظم هذه الحملات. فالحلفاء الاوروبيون الذين كانت تتهمهم الولايات المتحدة بالامس انهم مقصرون في الدفاع عن انفسهم، تتهمهم فجأة اليوم بالسعي لتحويل اوروبا الى قلعة عسكرية. وفي شرق آسيا تستمر الولايات المتحدة في التأكيد على ضرورة الوجود العسكري الاميركي الدائم في الوقت الذي تسعى فيه الى علاقات تجارية حسنة مع الصين. وكان ظهور البوارج العسكرية الاميركية بعد الحادث الجوي مع الصين دليلاً قاطعاً على الاتجاه الجديد لدى ادارة جورج بوش في الخضوع لنظريات العسكريتاريا الاميركية. واذا كان مثل هذا الحادث او بالاحرى هذا التصرف يذكر بأي شيء فإنما يذكر بتخوف وليام بفاف نفسه من ان تعتبر آسيا استمرار الوجود العسكري الاميركي تحدياً لها وليس مجرد ضرورة دفاعية قائمة.

عندما كان الجنرال كولن باول لا يزال في وزارة الدفاع كان يضع فوق رأسه قولاً قديماً خلاصته: «من بين جميع مظاهر القوة، الاستمرار هو الاكثر تأثيراً». ويبدو ان باول ينقل معه هذا المبدأ الى السياسة الخارجية الآن. وقد كان قصف العراق اول الدلائل على التمسك بهذه النظرية، وتتلخص قناعات باول السياسة العسكرية بثلاث نقاط، اولها ان المسؤولين العسكريين يجب ان لا يوافقوا مجاناً على التقييمات التي يقدمها السياسيون حول استخدام القوة. اما النقطة الثانية فتقول: «برفض اي حرب دون قناعات»، وبالتالي يجب اما استخدام قوة ساحقة مرة واحدة او عدم اللجوء الى القوة على الاطلاق. ثالثاً يجب شن اي حرب فقط من اجل الدفاع عن «مصالح حيوية» وليس من اجل «اسباب مشكوك فيها» او «لاعتبارات انسانية مجردة». ويختصر مبادئه على الشكل التالي: «هل المصلحة القومية على المحك؟ اذا كان الجواب بنعم فلنذهب الى الحرب ولنذهب كي نربح. اما اذا الجواب بالنفي فاننا لن نتدخل». لكن هل تتماشى سياسة وزير الخارجية مع سياسة رئيسه؟ بل هل يستطيع باول تطبيق هذا المبدأ حتى اذا تكررت مأساة كمأساة البوسنة والهرسك، او قضية مثل كوسوفو؟ بل هل يمكن لاميركا في مثل هذه الحال التدخل اذا احتلت الكويت مرة اخرى؟ لا بد هنا من الاشارة الى ان باول ظل يعارض دخول الحرب من اجل الكويت لفترة طويلة وكان وكيل وزارة الخارجية في تلك المرحلة لورانس ايغيل برغر يكرر باستمرار انه «على قناعة تامة بأنه لو كانت لكولن باول الحرية لما اعلن الحرب على العراق اطلاقاً، وقد دفعه الى ذلك فقط ضغط الرئيس بوش ومستشارة بنت سكوكروفت».

يذكر ان باول كان قد شكك ايضاً في التقارير القائلة ان العراق على وشك ان يغزو الكويت كما رفض ان يقيم اي حشود بحرية في محاولة لثني العراق عن ذلك، وحتى بعد احتلال الكويت وقف ضد التدخل معلناً: «ان الشعب الاميركي لا يريد ان يرى ابناءه يموتون من اجل نفط لا يساوي اكثر من دولارين للغالون». ويروي سكوكروفت في مذكراته ان مداخلات باول كانت تثير قلقه وامتعاضه الى حد بعيد.