كوستونيتشا فوجئ بتوقيت اعتقال ميلوسيفيتش

TT

لا تميل الصحف اليوغوسلافية الى نشر اعمدة من التعليقات، فهي تعبر عادة عن الآراء بالتقارير، وبالأخص بالرسوم الكاركاتورية، لهذا انتظر الصرب يوم الاثنين الماضي صدور صحيفة «داناس» ليطالعوا كاريكاتور كوراكس (الفائز بعدة جوائز عالمية). في رسمه اظهر كوراكس ميزان العدالة تتراكم على احد كفتيه جماجم الذين قتلوا في الحروب وعلى الكفة الثانية رأس سلوبودان ميلوسيفيتش.

من المؤكد ان عدد المتعاطفين مع ميلوسيفيتش تضاءل كثيرا حتى قبل اعتقاله، باستثناء الصحيفة الناطقة باسم حزبه الاشتراكي «24 ساعة» التي كان عنوانها صبيحة اعتقاله: «الاسد يدخل مرحلة جديدة». ويتحدث التقرير الذي تلاه عن مؤامرة الاطلسي مضيفا ان ميلوسيفيتش يتلقى دعما سياسيا من كل انحاء العالم! وكذّبت الصحيفة كل الوقائع بقولها ان الرئيس اليوغوسلافي السابق تبرع من تلقاء نفسه ليجيب على كل التهم الموجهة ضده وليس صحيحا بانه قاوم او هدد بالانتحار وان كل ما قيل بأنه لن يذهب الى السجن وهو حي، مجرد افتراء واكاذيب.. وهذا ما ردده نائبه في الحزب زيغوراد ايجيتش، غير عالم ان محطة الـ«سي.ان.بي.سي» اجرت مقابلة مع رئيسه وفيها تحدث بصوته بأنه يفضل الموت على السجن.

الغريب ان البعد عن الواقع لم يصب فقط ميلوسيفيتش بل كل المقربين منه، اذ قال مساعدوه انه غادر مقره هادئا وواثقا بأنه عائد.

الشباب في بلغراد رحبوا باعتقاله، اما العجائز فقد اعتبروا ان ما قام به كان للحفاظ على يوغوسلافيا وحماية الشعب الصربي. وسأل سائق تاكسي احد المراسلين: هل انت متأكد انه في السجن، انت تعرف ان اليوم هو يوم كذبة نسيان (ابريل)! وزير العدل الصربي، فلادان باتيتس، قال ان ميلوسيفيتش يواجه عقوبة السجن من 5 الى 14 سنة، اذا أدين بالتهم الموجهة ضده. اما وزير الداخلية دوسان ميهاجلوفيتش فقال ان الرئيس السابق قد يواجه عقوبة الاعدام لانه متهم بارتكاب جرائم عقوبتها الاعدام. «اننا نجري التحقيقات ونحتاج الى اثباتات».

حتى الآن فان الرئيس السابق متهم باساءة استغلاله للسلطة لثرائه شخصيا والمقربين منه، وبانه حث حراسه على مقاومة رجال الشرطة واطلاق النار عليهم عندما جاءوا لاعتقاله.

لقد كان ميلوسيفيتش ديكتاتورا فاز بالانتخابات، وقائدا اعلى للجيش خسر كل حرب شنها، واول رئيس جمهورية، وحتى الآن الوحيد، المطلوب للمحكمة الدولية في لاهاي. لمدة 13 عاما كان ميلوسيفيتش السلطة الوحيدة في صربيا، وقد قال احد الصرب، ان الشعب الصربي انتخب ميلوسيفيتش ثلاث مرات خلال تلك السنوات، «ربما يجب ان نُحاكم نحن ايضا».

لكن، خلال السنوات الـ13، اعتبره الكثير من الغربيين بانه استراتيجي بارع، وقال عنه عدد من الديبلوماسيين الغربيين الذين تعاملوا معه، بانه كان مدهشا في تكتيكاته وقادرا على القيام بتحركات لامعة اثناء الازمات، اما الذين يعرفونه جيدا فكانوا يقولون انه في كل مرة يشعر بالخطر كان يختلق ازمة ليبقى في السلطة. الغرب لم يسمع فهو كان في حاجة اليه في البوسنة، وقد نجح عام 1995 بحمل صرب البوسنة على التوقيع، ساعده في ذلك قصف طائرات الاطلسي لبعض المواقع في البوسنة، وعندما وقع اتفاق دايتون التاريخي، صافح ميلوسيفيتش زعماء كرواتيا والبوسنة وفرنسا واميركا، وبدا دوليا شخصية محترمة، حتى جاءت كوسوفو وغيرت كل شيء.

بعد يوم واحد من اعتقاله ذكرت انباء انه يميل الى الانتحار، فقالت احدى الصربيات: «لو كنت مكان المسؤولين لأعطيته مسدسا محشوا ليطلق النار على نفسه اليوم قبل الغد. انه يذكرنا بمآسينا وحروبنا، بالموت والجرائم، انه صفحة سوداء يجب حرقها بأسرع وقت، نريد الخروج من الماضي».

وكان احد المحققين في مجزرة سربرينتشا التي قام بها صرب البوسنة مزودين بأسلحة وتوجيهات من بلغراد، كتب: «هذه صفحات مظلمة في تاريخ الانسانية». ومع اعتقاله، ركز العالم وسيركز على الاتهامات الموجهة ضده من لاهاي، فهو متهم بارتكاب افظع الجرائم منذ الحرب العالمية الثانية. لكن، هل اقدم على كل ما اقدم عليه بمفرده؟ سؤال بدأ يُطرح في بلغراد وعما اذا كانت اخطاء العقد الماضي شارك فيها كل الصرب، الصرب بمفردهم، او بمشاركة غيرهم من شعوب جمهوريات يوغوسلافيا السابقة، وكم هي مسؤولية ميلوسيفيتش كفرد؟ وما هي مسؤولية الغرب؟

يقول ستوبان شيروفيتش من مجلة «فريميه» الاسبوعية: «منذ اللحظة التي تسلم فيها ميلوسيفيتش السلطة، لم يكن باستطاعة يوغوسلافيا تجنب الحرب. كانت الحرب واردة لكن غير مؤكدة، هو ثبّت وقوعها، هو لم يخلق التعصب الوطني الصربي بل فتح الباب له على مصراعيه. لقد وضع نفسه على رأس حركة عدوانية كانت تدمر كل المؤسسات التي اوجدها تيتو، ولم يكن يعرف الى اين ستقود حركته. لقد اخذ السلطة بواسطة انقلاب داخل الحزب في خريف 1987 وتزامن ذلك مع اعلان الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف نهاية الشيوعية. وكان هذا امرا سيئا ليوغوسلافيا لان الجيش خاف من عدم البقاء في المناخ السياسي الجديد.

«لقد كانت يوغوسلافيا قائمة على آلية تؤدي الى تفككها، اذ كان لكل الجمهوريات الحق بالانفصال، لكن التعصب الصربي رفض هذا الواقع. المتعصبون في بلغراد خافوا من ان يشجع انفصال الجمهوريات الانفصاليين الالبان، وعارضوا ان ينفصل الصرب الذين يعيشون في كرواتيا والبوسنة عن صربيا.

«ميلوسيفيتش من ناحيته حاول ان يطمئن الشيوعيين والمتعصبين، وعد الشيوعيين بالاستمرارية ورأى فيه المتشددون الزعيم القادر على تحقيق ما يشبه صربيا الكبرى، لكنه في الحقيقة كان يعد الطرفين بالمستحيل، وكل المآسي التي لحقت بيوغوسلافيا سببها محاولة جعل المستحيل ممكنا».

ويواصل شيروفيتش تحليله قائلا: «لقد رفض ميلوسيفيتش الاعتراف بسقوط جدار برلين واستمر يشن حربه الباردة الخاصة ضد الغرب، وفي الوقت نفسه دخل في صراعات سياسية تحولت الى حروب، يشده اصراره على حق الصرب في العيش في دولة واحدة. لم يحد عن تصميمه، كان دائما ثابتا في توجهه، لذلك كان سهلا التخمين بأن يوغوسلافيا ستحترق في اتون الحروب. كان رجل صراع، لا يكون في افضل حالاته الا اثناء الازمات وينجح في الايحاء بانه غير مهتم بالنتائج. لم يحصل على شرعيته من الانتصارات، اذ كان كل ما يريده ان تستمر الحروب الى اطول فترة ممكنة، كان يشعر بأمان في اجواء الرعب.

«وكان طبيعيا ان يدّعي انه فقط يدافع عن نفسه ضد اعداء يتآمرون على الصرب، وجاء قصف الاطلسي، حسب مفهومه، كأكبر اثبات على المؤامرة الدولية. وعلى الرغم من ان ايا من الصرب لم يؤيد قصف الاطلسي، غير ان ميلوسيفيتش ظن ان الحرب ستقوي مركزه، وعندما اكتشف العكس كان الوقت تأخر وانكشفت حقيقته، لان القصف اطال معاناة صربيا، وكشفت انتخابات العام الماضي ان البلاد كلها ادارت له ظهرها».

ويقول شيروفيتش: «فوجئ الكثيرون كيف ان آخر ديكتاتور في الغرب فقد سلطته بقوة التصويت وقبل الهزيمة من دون مقاومة تُذكر. السبب في ذلك، انه في الوقت الذي حكم هو بعقلية الديكتاتور حافظ النظام السياسي في صربيا على واجهة ديموقراطية، اذ استمرت الاحزاب والانتخابات والصحافة الحرة، وهو رغم ديكتاتوريته لم يسخر بكل القوانين. في البداية تمتع بشعبية عارمة، وفي السنوات الاخيرة من حكمه اضطر لعقد تحالفات مع اطراف معارضة بهدف تفريق منافسيه، لكن عندما اصبح واضحا انه فقد شرعيته لم تعد هناك من قوة قادرة على انقاذه، وتخلى عنه الجيش والشرطة».

ويضيف محدثي الصحفي الصربي: «قريبا سيقف ميلوسيفيتش في قفص الاتهام لكنه لن يكشف اي تفاصيل عن تفكك يوغوسلافيا وعن الحروب والمحادثات السرية، فهو طوال عمره تجنب قول الحقيقة. لقد كان الكذب مرادفا لاسلوب قيادته، لقد كانت اكاذيبه مكشوفة وواضحة، لكننا نعرف انه هو الذي بدأ سلسلة من الاحداث التي ادت الى الحروب والعنف والموت، وكان طوال حكمه غير مبال بمصير احد».

على كل، اعتقال ميلوسيفيتش لم ينه مشاكل صربيا ولن ينهيها قريبا، فهناك الفقر والدمار والديون، وهناك مصير كوسوفو والجبل الاسود المعلق حتى الآن، كما ان الامور ليست على ما يرام ما بين الرئيس اليوغوسلافي فويسلاف كوستونيتشا ورئيس الوزراء الصربي زوران دجيندجيتش، اذ انتقد كوستونيتشا النقص في التنسيق ما بين الشرطة والجيش اثناء محاولات اعتقال ميلوسيفيتش، وكانت ملاحظاته بمثابة نقد ضمني لرئيس الوزراء، مما اثار الكثير من التساؤلات حول عمق الخلاف بين الاثنين.

المعروف ان الاثنين جمعهما تحالف مدروس لاطاحة ميلوسيفيتش العام الماضي.

واحد الاسباب الذي جعل اعتقال ميلوسيفيتش يتحول الى حصار طويل، انه عندما جاءت الشرطة لاعتقاله طلبت من الضابط العسكري المكلف حماية المنزل بان يسحب عناصره، لكن الضابط اعطى المفاتيح لمجموعة من حرس ميلوسيفيتش. هذا ما قاله حلفاء دجيندجيتش الذين يسيطرون على الشرطة، وقد نفى هذا رئيس الاركان الجنرال نيبوسا بافكوفيتش، الذي كان ميلوسيفيتش عينه رئيسا للاركان وهو الآن من المخلصين لكوستونيتشا. والاخير بصفته رئيسا ليوغوسلافيا هو القائد الاعلى للقوات المسلحة، لم يكن على علم بخطة الاعتقال التي بدأ تنفيذها وهو في طريقه عادئا الى بلغراد من زيارة الى جنيف. وبعد يوم من الاعتقال عبر كوستونيتشا عن مرارته لانه لم يبلَّغ، وقال بطريقته المدروسة: لقد كان هناك نقص في التنسيق ونقص في المعلومات والكثير من الارتباك وحصلت فوضى عندما وصل الامر للعلاقة ما بين الشرطة والجيش، انما لم يحاول الجيش وضع العراقيل.

المراقبون رأوا ان دجنيدجيتش ربما حاول ان يضع كوستونيتشا امام الامر الواقع، لان الاخير حذر ويؤمن بالتوجه التدريجي، ولربما كان اعترض على ان يأتي الاعتقال مع نهاية المهلة التي اعطتها واشنطن، في حين ان رئيس الوزراء على العكس من ذلك، يؤمن بالسرعة ويعتقد ان فيها مصلحة لبلاده. والاثنان مختلفان على عدة قضايا، خصوصا ان كوستونيتشا احتفظ ببعض رجال ميلوسيفيتش مثل الجنرال بافكوفيتش، الذي كافأه لانه ابعد الجيش عن محاولات ميلوسيفيتش تجاوز انتصار المعارضة في انتخابات شهر ايلول (سبتمبر) الماضي، ثم ان كوستونيتشا قابل ميلوسيفيتش مبررا ذلك ان الديموقراطية تسمح لرئيس الدولة بلقاء زعيم المعارضة! ويقول المراقبون ان اسلوب كوستونيتشا برز في الاول من الشهر لانه كان بين الذين نجحوا في اقناع ميلوسيفيتش بتسليم نفسه من دون مواجهة، وهذا الاسلوب وفر له شعبية لافتة بين الصرب، في حين ان دجيندجيتش صرح يوم الثلاثاء الماضي لصحيفة «بوسطن غلوب» ان السلطات الصربية كانت مستعدة ان تدمر الفيلا التي يقيم فيها ميلوسيفيتش على من فيها لو قاوم. الآن مع دخول ميلوسيفيتش السجن، فان اسلوب كوستونيتشا قد يصبح غير ملائم. اما بالنسبة الى دجيندجيتش، فهو مشهور بالبراغماتية ويضغط لاجراء متغيرات سريعة. لكن بسبب تغيير توجهاته السياسية المستمرة فان شعبيته غير مرتفعة، واظهر اصراره على اعتقال ميلوسيفيتش قبل انتهاء المهلة الاميركية، انه سياسي مستعد للمغامرات المدروسة.

الاشهر المقبلة ستعمّق الصراع بين الرجلين. رئيس الوزراء يتمتع بصلاحيات واسعة، لكن تنقصه شعبية الرئيس اليوغوسلافي. من ناحية اخرى، اذ قررت جمهورية الجبل الاسود الاستقلال عن يوغوسلافيا، في الاستفتاء المقرر قبل نهاية شهر حزيران (يونيو) المقبل، فان منصب كوستونيتشا سيلغى، لان الفيدرالية اليوغوسلافية ستزول بعد انفصال الجبل الاسود.

اوروبا واميركا نصحتا السلطات في جمهورية الجبل الاسود بعدم المطالبة بالاستقلال. فهي تحولت الى مركز لتهريب السجائر الى اوروبا، فسببت بذلك خسارة المجموعة الاوروبية للضرائب التي تفرضها على السجائر، وترى المجموعة انه لا يمكنها القضاء على التهريب الا بتقوية الدولة اليوغوسلافية. على كل، الجبل الاسود مستقل تقريبا، وما بين العام 1878 و1918 كان العالم يعترف بالدولتين: صربيا والجبل الاسود.

الآن اذا استقلت تلك الجمهورية فعليا، فان كوستونيتشا يصبح تقريبا رئيسا في صربيا لادارة بديلة لحكومة دجيندجيتش. من هنا لا بد من السؤال: الى اي مدى سيستمر التحالف بين الاثنين ومن سيقرر بالتالي مصير صربيا؟ وهل ينجح كوستونيتشا بأن يبادل تسليم ميلوسيفيتش الى المحكمة الدولية في لاهاي مقابل بقاء الجبل الاسود في الفيدرالية اليوغوسلافية؟ علينا بمتاعبة التطورات.