قراءة في بيان قمة عمان

TT

تعددت القراءات واختلفت تقييمات المحللين بشأن بيان القمة العربية التي انعقدت أواخر الشهر المنصرم بعمان.

وصف البعض البيان بأنه مخيب للآمال. وقال عنه آخرون إنه كان دون التوقعات والتطلعات، وكتب عنه محلل سياسي إنه كان بيان قمة عادية جدا.

ويرجع تقليل البعض من أهمية البيان إلى انعقاد القمة العربية العادية في ظروف غير عادية أعلنت فيها إسرائيل حربا ضروسا على شعب فلسطين ولوَّحت إلى قدرتها على نشر هذه الحرب فوق تراب أجواء جيرانها العرب. وهو تمهيد يقدر شارون على بلورته إلى واقع شن حرب بالمنطقة بحكم أنه لا يُقدِّر آثار خطواته، ولا يحسُب أي حساب لعواقب سياسته القائمة على تحكيم القوة ولا شيء غير القوة.

إن التوقعات التي تقول عنها بعض القراءات إن البيان كان دونها هي توقعات جواب البيان على حماقة شارون بحماقة مثلها. أي أن يكون البيان العربي بيان حرب أو تهديدا بالحرب. وحيث لم يكن كذلك فقد كان في نظر هؤلاء المحللين خيبة للآمال، وكانت القمة دون التطلعات، أو قمة عادية جدا، أي دون العادية.

وهذه الأحكام الصادرة في المطلق تفتقد النسبية التي تُرشِّد الأحكام وتُعقْلن التوجهات والمواقف. وبمقتضى منهجية النسبية يحسن القول إن البيان جاء حازما متوازنا وحتى مستجيبا لإكراهات الظروف غير العادية التي انعقدت فيها القمة.

لقد كان في الإمكان أن يصدر عن القمة بيان بلاغي يَلفِظ في وجهي إسرائيل وحليفتها الأميركية بقذائف ذات عيارات نارية، ويعلن أن العرب نفضوا أيديهم من السلام، وأنهم على استعداد لمواجهة إسرائيل على الميدان العسكري، وأنهم يقطعون العلاقات مع الولايات المتحدة حامية إسرائيل. لكن ماذا كانت ستكون عليه مصداقية بيان من هذا النوع؟

لحسن الحظ أن مواقف طوبائية من هذا النوع لم تعد مقبولة في عالمنا المعاصر. ولحسن الحظ أن العرب قد دخلوا في مرحلة النضج السياسي الذي يحصنهم ضد الانزلاق في متاهات التهور الذي يبدأ من حرب الكلام. والحرب أولها الكلام: الكلام غير الموزون وغير المقفَّى.

يمكن القول إن البيان جاء مخيبا لآمال إسرائيل في جر العرب إلى ارتكاب حماقات يستفزهم شارون إلى ارتكابها. على العكس من ذلك واجه العرب استفزازات اسرائيل في القمة بالتأكيد على التشبث بخيار السلام كخيار استراتيجي وحيد يستبعد الحرب والتهديد بها. لكنهم أوضحوا أن السلام العربي هو السلام الشامل العادل القائم على رفع الاحتلال عن جميع الأراضي العربية. وهذا السلام العربي هو سلام الأمم المتحدة.

بدلا من أن تضع إسرائيل العرب في خانة المتمردين على الشرعية الدولية، والمتنكرين لأخلاقياتها، نجح العرب ـ ببيان القمة المتوازن ـ في وضعها في خانتها وحاصروها في خندق الحرب الذي أوقعت نفسها فيه، ورفعوا في وجهها راية السلام البيضاء، لكنهم لم يرفعوا راية الاستسلام كما كانت تخطط لذلك وما تزال تنتظره منهم في مراهنتها على القوة والقوة وحدها.

توجد إسرائيل اليوم في موقع لا تُْحْسَد عليه. فهي بين دول العالم اليوم منعزلة رغم حماية الولايات المتحدة. وأصبح العالم يشير إليها على أنها الكيان المهدِّد للأمن العالمي، المجاهر بعنصريته، والذي يُنظّر من خلال تصرفاته الشاذة إلى عودةِ نازيةٍ جديدة. وقد أصبحت حركة معاداة اليهود تنتشر في المجتمعات الأوروبية، وتقترب من مستواها الذي كانت وصلت إليه قبل الحرب العالمية الثانية.

في الأسبوع المنصرم نشرت الصحافة الفرنسية قائمة المنشآت التي استهدفتها في فرنسا سلسلةُ اعتداءات لم تعثر فرنسا على مرتكبيها، وأكدت أن ليس وراءها لا عرب ولا مسلمون، ولكن أوروبيون ثاروا ضد اليهود ردّا على تصرفات إسرائيل الحمقاء حيال الفلسطينيين، وإعرابا عن استنكارهم لتوجهات إسرائيل العنصرية.

اختار العرب في القمة بدائلهم عن الحرب، وبلوروا استراتيجية لفرض السلام على إسرائيل. إنهم يواجهون حرب إسرائيل بالإجماع على صمودهم في معسكر السلام. وقد طرحوا في البيان عددا من الوسائل لبلورة هذا الصمود في تدابير ضاغطة على اسرائيل لإجبارها على العودة الى المفاوضات بدون شروط، بل بالقبول مسبقا بشروطهم. إنهم أجمعوا على دعم الانتفاضة الفلسطينية ماديا ومعنويا واعتبار أسلوبها وسيلة لمقاومة الاحتلال، ونفوا عنها تهمة الإرهاب، وتضامنوا مع هذه المقاومة رافضين أن تسمى بالعنف كما تسميها إسرائيل والولايات المتحدة، وتراصوا صفا واحدا وراءها وربطوا مصير القضية العربية بها. وهذا تحد مشروع يقلب ميزان المعادلة التي اختصرتها إسرائيل في الجلوس حول مائدة المفاوضات بدعوى أنها وحدها هي التي تحقق السلام والأمن في المنطقة. وهذا يعني أن العرب أجمعوا على تغيير النهج الذي ابتدأ من أوسلو وتبين عقمه وفشله.

أما البديل الثاني فهو الإجماع على تفعيل مقاطعة إسرائيل، ورفض كل نوع من أنواع التطبيع معها، والابتعاد عن المشاركة في المنتديات الاقتصادية التي تشارك فيها إسرائيل والتي كان المراد منها انتزاع تطبيع جماعي من العرب معها.

أما البديل الثالث فهو إجماع العرب على المطالبة بمحاكمة حكام اسرائيل لارتكابهم مجازر وجرائم حرب بحق المواطن العربي في جميع الأراضي العربية المحتلة وخارجها.

وتشَكَّل البديل الرابع بدخول العرب في مرحلة مصارحة مع الولايات المتحدة وإشعارها بأن صبرهم على مواقفها المنحازة لإسرائيل قد عيل وأصبح لا يطاق. فالبيان قد نص على ان القمة مستاءة من استخدام الولايات المتحدة حق الرفض «الفيتو» في مجلس الأمن ضد مشروع القرار حول حماية الشعب الفلسطيني وانشاء قوة للأمم المتحدة للمراقبة، كما نص البيان على رفض القمة للمبررات الأميركية.

وكانت القمة حازمة في مخاطبتها لإسرائيل بتوجيه القادة العرب لها تحذيرا عن عواقب تنصلها من الأسس والمرجعيات والمبادئ التي قامت عليها عملية السلام في مدريد سنة 1991 وبتأكيدهم على تلازم المسارين السوري واللبناني وترابطهما مع المسار الفلسطيني. وهو ما يعني أن العرب توحدوا في خندق السلام الواحد الذي لا يمكن معه لإسرائيل ان تأكل الثور الأسود أَوَّلاً لتتبعه بالثور الأبيض.

ربما كان عدم توفر الإجماع على مشروع القرار الخاص بـ «الحالة بين العراق والكويت» هو الذي ألقى ظلال الشك على نجاح القمة، لكن هذه النقطة على أهميتها كانت وحدها النقطة الوحيدة التي لم يتوفر عليها الإجماع. وكان سبب الخلاف في شأنها هو طرحها على القمة دون سابق إعداد. وكان ينبغي أن يُمَهَّد لطرحها بقيام الأمانة العامة للجامعة العربية بمسعى سابق لدى الأطراف المعنية مباشرة بالقضية، وإزالة الأشواك من طريقها حتى يُطرح مشروع القرار على القمة بعد إنضاجه، ولا يقذف بالقضية إلى النقاش على نار حامية.

ويبقى المهم في القمة ليس هو فقط صدور بيان رغم أهميته وتضافر الإجماع عليه، ولكن هو إعداد آليات تطبيقه وتفعيله ومتابعته. وهذا ما لم ينص عليه بيان القمة وما يشكل سلبية لا بد من تلافيها.

إن القمة قد اتفقت على اختيار أمين عام جديد للجامعة العربية في شخص الوزير المصري عمرو موسى بدلا من الأمين العام عصمت عبد المجيد. ولا تُنكر للأمين العام المودِّع جهوده المشكورة ومعاناته لتحسين أداء الجامعة. لكن الخلف الجديد كان وهو على رأس وزارة الخارجية المصرية دافق العطاء حاضرا في كل ميدان. ولعله يكون على رأس الأمانة أكثر تدفقا وحضورا، وأن يطعمها بدم جديد يعطي للجامعة مصداقيتها ويجعلها عديلة ومضاهية للمنظمات الدولية.