كلمة.. لطارق عزيز..

TT

مجرد ملاحظة: .. منذ عقود، وأنت تهندس للسياسة العراقية التي تبدأ خطابها في المحافل الدولية بمنطق يبدأ بجملة (السلام على من يرغب برد السلام واذا لم يرد.. فلا سلام عليه) وينتهي بجملة (فليخسأ الخاسئون ) ونتيجة هذا النهج أصبح العراق الجميل موطناً للكوارث والمآسي التي لم يشهدها في أي عصر من عصوره القديمة والحديثة..! والذي لا شك فيه انك في محاولاتك (الميترنخية) و (الكيسنجرية) قد أسست ـ بنجاح منقطع النظير ـ لأخلاقيات خطاب سياسي حديث لم تعهده بلاد الرافدين طوال مراحل تاريخها! مع ان العراق يُعد منبعاً للمفردات الثرية بأجزل المعاني وأعذبها، الا انك تصر في خطابك على الخسة والخاسئين، وما شابه ذلك من الألفاظ التي لا تدل الا على الابتذال في الخطاب السياسي.

* هذه الملاحظة ليست هي بيت القصيد في ما أنا بصدده من الكتابة اليك، ولكنها ملاحظة عابرة، وذات علاقة بالاطار الذي تسيرون عليه.

انما ما قصدته هو الحديث عن مدلول خطابك السياسي ومدى مصداقيته، وسأقتصر على جملة من النقاط استدعتها ظروف موضوعية آنية هي التي حفزتني على كتابة هذا المقال.

فشل عبد الناصر! في عام 1981 قلت لاحدى الصحف الكويتية ان تجربة عبد الناصر، قد فشلت وسقطت، ولا يمكن للرئيس صدام حسين ان يقلد في تجربة ساقطة وفاشلة! يومها رددت عليك بمقالة بعنوان: (للأخ طارق عزيز مع التحية)، تساءلت فيها عما هي الانجازات والنجاحات التي حققها رئيسك صدام حتى توصم تجارب الآخرين بالسقوط والفشل؟! وقد اخبرني الأخ سعد البزاز الذي كان مسؤولاً اعلامياً في ذلك الوقت ان مقالتي تلك قد اثارت انزعاجك لدرجة انك اصدرت تعليماتك لجهازك الأمني في الكويت لاجراء اللازم لتصفيتي حتى أكون عبرة لغيري، وهذا ما دفع احد موظفي سفارتك في الكويت (حامد الملا) الى اشهار مسدسه بوجهي أمام وجوم الزملاء الذين اصابتهم الدهشة، وقد جاء على ذكر هذه الحادثة الكاتب فيصل القناعي في لقاء تلفزيوني.. ولم يهدأ لك بال الا بعد ان طلبت من القائمين على الصحيفة التي اكتب فيها ايقاف زاويتي اليومية التي كنت مستمراً بكتابتها لعدة سنوات.. وتم لك ذلك بالفعل؟! وان كان ذكر تفاصيل هذا الموضوع يلقي بعض الضوء على أساليبكم، الا انني سأتجاوز عنه (مؤقتاً) لأنتقل الى حديثك في المؤتمر القومي الذي عقد في بغداد منذ أيام، وتحدثت فيه الى بعض المصريين ممن جاءوا يشاركون العراقيين في مصائبهم التي كنتم انتم سبباً في حدوثها.. وتكلمت عن عبد الناصر! وعظمة عبد الناصر! وبطولة عبد الناصر! وأشرت الى أن النهج الناصري والبعث هما وجهان لعملة واحدة! وانكم ترفضون خطط التسوية مع اسرائيل تمشيا مع مبادئ عبد الناصر؟! وانني ادعو السادة القراء الى ان يعودوا الى قراءة حديثك مع مصطفى أبو لبدة الذي نشرته (جريدة السياسة) الكويتية بتاريخ 14/7/1981 ليروا كيف قيمت تجربة عبد الناصر واعتبرتها ساقطة وفاشلة، وبشرت بميلاد البديل لعبد الناصر، وهو صدام حسين ـ الذي فرغ لتوه آنذاك من اعدام رفاق القيادة القومية والقطرية جميعاً ليتفرد هو بالسلطة ـ ولا أريد الوقوف أمام هذه النقطة ايضا، فالتناقضات في الخطاب السياسي العراقي باتت معروفة لدى الجميع، بانعدام مصداقيتها سواء على الصعيد العربي أو الاسلامي أو العالمي! التدليس! ولولا تعاطف الشعب العربي مع مأساة أشقائهم في العراق من جراء الحصار الذي تسببتم انتم فيه ايضا وتجييركم تلك المأساة بالعزف على أوتارها لاطالة عمر نظامكم، لما استقبلتكم القيادات العربية، رغم تجاربها المريرة مع سياساتكم ولكنها ـ اي القيادات ـ قد لبت رغبات مواطنيها بمن يتعاطفون مع الشعب العراقي بالدرجة الأولى.

وأرجو الا يساورك اليقين، وتصدق ان الشارع العربي بتنظيماته وقياداته يسير وراء أوهام طروحاتكم ويأخذها على محمل من الصدق..! فإن 7 ملايين متطوع لمساعدة الانتفاضة هي لعبة ساذجة ومكشوفة ومناورة حتى وان صحبتها طلقات نارية وبيد واحدة في الهواء..!! وكذلك مسرحية (المليار يورو) والتي تعلمون ـ قبل غيركم ـ أنها غير قابلة للتطبيق! أقول هذا لأنكم قد اشتهرتم بدرجة امتياز ببراعتكم في اختلاق المواقف المناوراتية التي كثيراً ما أدت الى كوارث ومآس دفع ثمنها شعب العراق والشعوب المجاورة له.

العروبة والإسلام.. والإسلام والعروبة!! فقيادتكم شنت حرباً على اسلام ايران باسم العروبة! ثم شنت حرباً اخرى باسم الاسلام على العروبة في الكويت! فمرة يُحارب الاسلام باسم العروبة، واخرى تحارب العروبة باسم الاسلام!!؟

ان مسلسل تناقضات النهج السياسي في الخطاب العراقي يريد الغاء العقول عندما يأتي ويقول: ان الكويتيين لن يهنأوا ولا يطمئن لهم بال ما دمنا على قيد الحياة! ثم يطالب بعد ذلك بمصالحة غير مشروطة مع الكويت! واخيراً، وليس آخراً في مسلسل تناقضات نهج الخطاب السياسي العراقي، انك قلت لمندوب فضائية الـ MBC في عمان عندما سألك: كيف تطلبون تنقية الأجواء العربية، وتطالبون برفع الحصار، في حين ان اجهزتكم الاعلامية لم تتوقف عن شن الهجوم على كل من السعودية والكويت؟! فما كان منك الا ان قلت له: انني قد أتسامح مع الكويتيين في ما سببوه من دمار للعراق، ولكن كيف اضمن ان احفادي سيسامحون الكويتيين؟! قل لأحفادك أنت تخشى الا يستمر حقدك على الكويتيين كي لا يرثه احفادك.. وهذه نظرة انسانية منك نشكرك عليها.. ولكننا نتمنى لو أنك قلت لاحفادك الحقيقة ليدركوها على الوجه الصحيح:

* قل لأحفادك عن هوية القطار الذي اوصلكم الى سدة الحكم في العراق، وما هو الثمن؟!

* قل لأحفادك: عن تصفيتكم للاحزاب والقيادات والمنظمات، وكم أريق داخل العراق من جراء تلك التصفية من دماء.

* قل لأحفادك: عن الحرب التي اضرمتموها مع ايران، ازهق فيها اكثر من مليون انسان.. ناهيك من المليارات من الاموال التي استنزفت هدراً، وكلم احفادك كذلك عن آخر كلمات قالها دي كويلار (الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة) وتتلخص في أن (النظام العراقي هو الذي بدأ بالعدوان على جارته ايران).

* قل لأحفادك ـ ما دمت تتحدث عن قضايا انسانية ـ ان يطلعوا على فيلم ولو قصير يتناول تعاملكم مع اطفال (حلبجة) وشيوخها ونسائها بل حتى قططها وكلابها، لكي يتبين احفادك نوعية الازهار والعطور التي (رششتم) بها تلك القرية الفقيرة!

* قل لاحفادك ان يقرأوا عن (الصدر) و (الشيخ البدري) وما حدث لهم ولأضرابهما داخل المعتقلات والسجون، وحدثهم كذلك عن احواض (الكبريتيك) و (النيتريك) التي تذيب الكائنات البشرية، وليت انك كذلك تحدث احفادك عن صراع السلطة في ما بين الرفاق، والمسلسل الدموي الذي ما زال مستمراً بينهم.. ولا بأس ان تحدث احفادك عما حدث للرفيق حسين كامل والد احفاد رئيسك!

* قل لاحفادك وحدثهم عن كرم وسخاء أولئك الذين مدوا لكم يد العون والمساعدة... وبذلوا كل جهدهم يوم وقفوا معكم في خندق واحد، مع انهم لم يكونوا معنيين بالحروب التي افتعلتموها! وكيف رددتم عليهم صنع الجميل.. فقمتم بغزو الكويت، وقتلتم، ونهبتم، وشوهتم كل الأشياء الجميلة، وكيف اخطأت صواريخكم اتجاهها.. فبدلاً من أن تتجه نحو الاعداء الحقيقيين، اتجهت نحو مدن المملكة العربية السعودية لتقصف مناطق في مدينة الرياض وغيرها من مناطق أخرى.

* قل ـ يا طارق عزيز ـ لاحفادك عن الاسباب الحقيقية التي ادت الى حصار حضارة الرافدين، وجعلها تغدو واحدة من البلدان المتأخرة لقرون وقرون، بعد ان كانت منبعاً للحضارة الانسانية.

ولعله من المناسب في هذه الكلمة ان تحدث احفادك عن دورك الحقيقي في دمار حضارة العراق المعاصرة، وان كنت اشك انك ستفعل، انما اتمنى على يقظة الضمير التي اعترتك وانت تتحدث عن الاحفاد لو أنك حدثت احفادك عن (منير روفة) قريبك الذي فر بطائرة عراقية الى اسرائيل! وحدثهم كذلك عن اجتماعاتك به في احد فنادق ميونخ، وكيف تم الاتفاق والتنسيق بينكم وبين الموساد من خلاله لتصفية معارضيكم، واسفر عن ذلك الاتفاق اغتيال عدد من القيادات تمت في مناطق متعددة... وهناك الكثير مما يمكن ان تحدث احفادك عنه لكي لا يكونوا حاقدين على الكويت وغيرها.. ولكنني اكتفي بهذا النزر اليسير.

*** فإذا ما كبر احفادك، وقرأوا تاريخكم، ثم استمروا بعد ذلك بحقدهم على الكويت وغيرها، فلا غرابة في ذلك.. لأنهم تشربوا من مناهل اجدادهم، وتوارثوا جيناتهم؟!

* أما شعب العراق الحقيقي فهو لا ينتمي اليكم بأية صلة نسب، وبالتالي فإنهم لا يحملون حقداً لأحد.. لأننا وإياهم عانينا من ظلمكم وجوركم واجرامكم.. ولذا فإن المستقبل لأحفاد الحب وليس لأحفاد الحقد الذي يتصوره مهندس الخطاب السياسي المعاصر طارق عزيز!