بين عزلة الترابي واعتزال القرني

TT

نشرت «الشرق الأوسط» في عدد الأحد الماضي (3 ديسمبر)، خبرين متجاورين استوقفا اهتمامي: أولهما اعتزال الداعية السعودي عائض القرني، وثانيهما دعوة الناشط الإسلامي السوداني المعروف حسن الترابي الحركات الإسلامية في العالم إلى ترك شعار «الإسلام هو الحل» في ما يشبه نوعا من المراجعة الجذرية لخط بدأه منذ قرابة نصف قرن.

صحيح أن الشخصيتين تختلفان من أوجه عديدة، فأولهما خريج المدرسة السلفية السعودية، ولم يعرف له نشاط سياسي، في حين لا يذكر التاريخ السوداني المعاصر إلا وللترابي ذكر أو دور. فلقد عرف الرجل بتقلباته المثيرة من عدو الرئيس الأسبق النميري إلى مستشاره الأقرب في آخر عهده، ومن خصم منافس لصهره رئيس الوزراء الأسبق صادق المهدي إلى شريك له في الحكم، ومن حاكم فعلي للسودان أيام ثورة الإنقاذ إلى سجين معزول في سجون البشير، ومن حامل لواء الجهاد ضد «الصليبين» في الجنوب إلى حليف لغارانغ.

ومع ان الترابي كان مهيئا في بداية مساره، إلى أن يكون حسب ادعائه عالما مجددا للدين بثقافته التراثية الواسعة وتكوينه القانوني الحديث، إلا أن مشروعه الفكري لم يتجاوز رسائل وإشارات مقتضبة، سبكت بلغة انيقة ومتينة يغلب عليها نهج التجييش العاطفي والتراكيب المبهمة.

وهكذا بقي «تجديد علم أصول الفقه» مشروعا معلقا، ولم يتمكن من تطوير مقاربته للفن التي ارادها جريئة، او تصوره لتحرير المرأة إسلاميا الذي كتب حوله عدة نصوص مختصرة.

ومع أن الترابي دخل منذ سنوات في نقد الحركات الاسلامية وتردت علاقته بالتنظيم الدولي لإخوان المسلمين الذين رماهم بالسطحية الفكرية، الا ان «مشروعه البديل» لم ينجح في استقطاب التيار الاسلامي الواسع على الرغم من «الأممية الاسلامية» التي حاول تشكيلها ايام تفرده بزعامة ثورة الانقاذ.

وقد خرج لنا الترابي من سنوات عزلته بكتابه الاساسي الذي جمع فيه شتات افكاره وقدم فيه حصيلة مشروعه الفكري والسياسي، وهو مصنف ضخم بعنوان «السياسة والحكم: النظم السلطانية بين الاصول وسنن الواقع»، لم يأت فيه بالجديد في ما وراء التشديد على قيم الحرية والشورى والعدل التي ينضح بها النص الاسلامي.

أما الداعية المعتزل القرني، فينتمي الى الجيل الجديد من الدعاة النجوم، الذين دخلوا لمختلف البيوت عن طريق الشاشة الصغيرة.

ولقد عرف بأسلوبه المبسط ولغته اللطيفة، التي تشع املا وبشارة، على عكس من انتهجوا اسلوب التنفير والتشديد، فشأنه شأن الشاب المصري عمرو خالد، او الشيخ الصوفي اليمني الحبيب الجفري، او الداعية الكويتي طارق السويدان يتجنب السياسية، ويؤثر تقديم مادة روحية جذابة اساسها القصص النبوي وشيم الصالحين وعبر الحياة.

جمهوره الطبقات الشعبية الغنية والمتوسطة التي تشهد صحوة دينية متنامية، تنعكس في السلوك الشعائري، بعيدا عن التوظيف السياسي، أو شظافة الزهد الثوري.

يبحث في الدين عن متع اضافية في زحمة إقبالها على الحياة، ولا ترى فيه عائقا عن اندماجها الطبيعي في النظام الاستهلاكي المهيمن، او في الحراك السياسي القائم.

ولذا لم يكن من الغريب ان يشعر الشيخ القرني بالاحباط والنقمة من الاطراف كلها متهما الحداثيين بوصفه بالخارجي، وغلاة السلفيين التكفيريين، باعتباره عالما مهادنا للسلطة، في حين يرتاب الساسة منه.

فهو يزاحم الحداثيين في مواقعهم الاجتماعية، وإن كان يختلف عنهم من حيث الخطاب والمادة المعرفية، ويشترك مع السلفيين المتطرفين في المرجعية الفكرية، لكنه يختلف عنهم في المنهج والاسلوب ويأنف من نظرتهم العدوانية ضد المجتمع وتكفيرهم للمخالف.

ومن الغريب المثير، ان الحملة الشرسة التي تعرض لها الشيخ القرني كان سببها الاوحد الظهور في الفيلم الوثائقي «نساء بلا ظل» للمخرجة السعودية هيفاء المنصور وتقديمه لفتوى تبيح للمرأة الكشف عن وجهها حسبما تقرر لدى أغلب علماء الاسلام.

وبين مراجعة الترابي واعتزال القرني، نتلمس بعض جوانب ازمة الخطاب الاسلامي الرائج الذي يعاني راهنا من انحرافين خطيرين: انحراف التطرف الذي تحول من موقف عقدي وفكري الى حالة ارهابية مدمرة، لا تعالج بمجرد الوسائل الامنية، وانما بحرب افكار حقيقية، يجب ان ينهض لها علماء الاسلام الجادون المسؤولون.

انحراف الادلجة المبالغة في التسييس الذي انعكس بوضوح في غياب الرؤية الاجتهادية التجديدية الرصينة، والقراءة الاستكشافية المبتكرة لملفوظات النص ومقاصده.

فلا الارهاصات الفلسفية الواعدة في فكر محمد اقبال طورت وفصلت، ولا اجتهادات محمد عبده العلمية ولا تأويلاته الكلامية تواصلت وجذرت، ولم يفلح المشروع السياسي للحركات الاسلامية في بناء النسق الايديولوجي المنشود حسب شهادة الترابي.

وبما ان الامة لم تفقد اعتزازها بدينها وحرصها على مسلكياته الأخلاقية والشعائرية من دون الانقياد ضرورة لمشاريع ثورية راديكالية لم تعد تحرك الناس وتؤثر فيهم، فإن الدعاة النجوم الجدد يقدمون هذه المادة الروحية المطلوبة لإغناء حياة الاستهلاك الجدباء الفقيرة.

فجمهور هؤلاء الدعاة هم في الغالب من رجال السلطة ونجوم السينما وكبار رجال الاعمال، ودخولهم عالية من ريع كتبهم السيارة وبرامجهم التلفزيونية الرائجة، انهم باعة أمل تزداد الحاجة اليهم في لحظات اليأس القاتمة وموزعو متع نفسية لا ضرر فيها ولا خطر.

فقد تكون الأمة بحاجة الى انعزال الترابي، الذي جرت مغامراته الطائشة الكثير من المشاكل للسودان، بدل اعتزال القرني الذي اعلن هجره للجميع في قصيدته العتابية الطويلة.

«لا تحزن» يا قرني وعد الى موقعك داعية أمل في زمن التطرف والعنف.