مصر على مفترق الطرق

TT

هل أصبح الإخوان المسلمون، هم قوة المعارضة الحقيقية في مصر؟ وهل حصولهم على هذا الكم غير المسبوق من المقاعد يعني أن مصر على مفترق الاختيار ما بين دولة مدنية ودولة دينية؟ وهل هناك نسبة كبيرة من البشر في مصر تميل إلى الدولة الدينية التي يبشر بها الإخوان؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي ـ وهي كذلك ـ ماذا يعني فوز الإخوان بهذا الكم من المقاعد؟

الأمر الواضح أن القوة الحقيقية للإخوان في عملية التصويت الانتخابي، هم أولئك الذين شاركوا في الانتخابات الرئاسية وراء مرشحي المعارضة، بالتالي فإن قوتهم التصويتية لا تتجاوز 250 إلى 300 ألف صوت، وهذا الحجم من الأصوات هو تقديرات محايدة ليست منحازة مع أو ضد الإخوان، وليس دقيقا ما يدعيه بعض قيادات الإخوان من أنهم لم يشاركوا بكامل قدراتهم في انتخابات الرئاسة، وأظن أن الهدف من ذلك هو إعطاء الانطباع بأن قوتهم أعلى مما ظهر في الانتخابات الرئاسية، وليس دقيقا أيضا ما حاولت قيادات إخوانية تسريبه أو عدم تكذيبه مما يعطي الانطباع بصحته، من أن هناك صفقة تمت بين الإخوان والدولة، تتوقف الجماعة بمقتضاها عن الخروج إلى الشارع وقت انتخابات الرئاسة، مقابل السماح لهم بالتحرك بحرية أثناء الانتخابات البرلمانية.

هذه المعلومات أرادت بها الجماعة إعطاء الانطباع بأنها باتت تدخل حوارا، أو صفقات مع طرف آخر مفاوض هو الدولة، وتعلم قيادات الجماعة أن هذه المعلومات غير صحيحة، وأن تراجعهم في انتخابات الرئاسة عن الخروج إلى الشارع، أو نقل المواجهة إلى الشارع، إنما يعود إلى إدراكهم اليقيني أن هذه الخطوة هي خط أحمر غير قابل للتجاوز.

ورغم ما ذكر في الأسطر السابقة يظل السؤال: إذا كان الأمر كذلك، فماذا يعني هذا الانتصار الكبير الذي حققه الإخوان وما دلالاته؟ قبل الاجتهاد بالإجابة أؤكد على مفهم ضخامة الانتصار الذي حققه الإخوان، وهو انتصار لم يتوقعوه هم ذاتهم، بل إن ما حققوه في الجولة الأولى كان صادما لهم، وخلق حالة لديهم من التخوف من القادم، وذلك لإدراكهم أن انتصاراً أكبر من المتوقع يمكن أن يخلق حالة تخوف كبير منهم، ويمكن أن يتسبب في التعجيل بصدام ليسوا راغبين فيه الآن، وهو الأمر الذي دفع بعض قيادات الجماعة إلى محاولة إقناع بعض المرشحين المنتمين لهم بعدم خوض انتخابات المرحلة الثانية والثالثة، وهو الأمر الذي قوبل برفض من قبل المرشحين أنفسهم وساعد في ذلك قيادات أخرى داخل مكتب الإرشاد، وانتصر تيار الاستمرار في المعركة.

الآن محاولة الاجتهاد في الإجابة عن السؤال، هل بالفعل هذه هي القوة الحقيقية للإخوان، وهل هو إعلان لانهزام المعارضة المدنية؟ أم هو تراجع وتنازل عن مفهوم الدولة المدنية؟ التراجع عن التساؤل الأول الخاص بقوة الإخوان تضاربت الإجابة بشأنها، منها من تحدث عن أن ذلك دليل على قوة الإخوان التنظيمية، وقدرتهم على الحشد ومنها من دلل بذلك التفوق الإخواني على ضعف المعارضة، وإجابات أخرى تحدثت عن تصويت مضاد للحزب الحاكم والنظام في مصر فصوتت مع أكثر القوى عداء للنظام، والقوى السياسية التي رفعت شعارا دينيا عاما حصنته بأمر إلهي فبات الخروج عليه وانتقاده يقع في قائمة الحرام، أظن أن كل الإجابات السابقة صالحة لتفسير ما حدث، ولكني اظن أن أكثرها اقترابا من الحقيقية أو تأثيرا كان ذلك الإحباط العام الذي شعر به الناس في الشارع من خطى الإصلاح وتسارعها، فقد توقع الناس في الشارع أن الخطوات الإصلاحية مستمرة بقوة الدفع الأولى والمهمة التي بدأت بتعديل المادة 76 والانتخابات الرئاسية المتعددة، كان حجم المشاركة غير مسبوق ـ على قلته ـ وكان الاعتقاد أن التغيير والإصلاح يسير بنفس قوة الدفع، إلا أن القائمة التي أعلن الحزب الحاكم خوض الانتخابات بها، جاءت مخيبة لآمال المتشوقين لسرعة الحركة والإنجاز، وبدا الوضع وكأن القوى الدافعة في اتجاه التغيير والإصلاح لا تملك الاستعداد لدفع ثمن هذا التغيير، تريد التغيير والاحتفاظ بالمكاسب كلها، وهو الأمر الذي برر به القائمون على اختيار المرشحين للحزب لسوء الاختيار، فهم يريدون حسم الانتخابات من الجولة الأولى لصالح الحزب، وبالتالي لم ترغب تلك القيادات في المغامرة حتى لو كانت محسومة.

فكانت الصدمة الكبرى التي جعلت البشر في الشارع يفضلون التزام بيوتهم والابقاء على الكتلة الصامتة صامتة، وترك الشارع لمن هو منظم أو من يمتلك دافعا للحركة أو الخروج للتصويت، إما عقيدة أو مبدأ أو عصبية أو ثمنا مدفوعا، أو من خرج يائسا من إصلاح الحال يبحث عن مخرج يعبر من خلاله عن رفضه صارخا رافضا وليس هناك نكاية في الحزب، خاصة مع غياب أحزاب المعارضة المدنية الحقيقية ـ أو تغييبها ـ فلم يعد في الساحة سوى القوى الدينية الرافعة لشعارات دينية من دون برامج، وتعد من يتبعها بالجنة حتى لو لم تصرح بذلك.

وعلى الطرف الآخر استسلمت القوى الليبرالية والديمقراطية إلى حالة التضييق، التي فرضت عليها من قبل عديد من أجهزة الدولة، واكتفت تلك القوى بالوقوف موقف المظلوم الشاكي الباكي، الذي يعاني من اضطهاد الحزب الكبير الذي استأثر بكل شيء وتركهم بلا أي شيء، وبدا أن الشكوى الممزوجة بالاستسلام للأمر الواقع هو كل الدور الذي لعبته تلك القوى، هذا عن تلك التي يمكن ان نعتبرها قوى سياسية بحق، أما الأحزاب الأخرى ـ التي لا تملك من مفهوم ومقومات الحزبية سوى الاسم ـ فقد كانت كالديكور المكمل لصورة هي بالتأكيد ليست صورة حقيقية أو صورة متفائلة.

وهذا يقودنا إلى السؤال الآخر المهم، هل الدولة المدنية في مصر تواجه خطرا ما؟ أظن أن الإجابة هنا هي أن هناك قلقا وطنيا حقيقيا على الدولة المدنية، ولكنها ليست مخاطر على قواعد هذا المفهوم.

الأكيد ـ كما أعتقد ـ أن ارتفاع نبرة شعار الدين السياسي، إنما يؤدي إلى حالة تراجع حقيقية في الممارسة السياسية الليبرالية، وأن هذا التراجع ليس في صالح المجتمع المصري، الذي عاش منذ أكثر من قرن حالة حراك فكري حقيقي، وحوار حول أفكار طرحت في بدايات القرن الماضي، لو جرأنا في أيامنا هذه على طرحها لاتهمنا بالفسق والكفر، وهذا ليس الا نتيجة لارتفاع نبرة الشعار الديني السياسي، وتراجع الفكر والممارسة الليبيرالية الحقيقية أمام هذا الحضور للفكرة الدينية في السياسة، أضف إلى ذلك حالة التقاعد التي انتابت ما اصطلح على تسميته «النخبة»، وهو أمر يحتاج إلى مراجعة حقيقية وموقف حقيقي من قوى المجتمع المدني كله.