الاتجاه المعاكس

TT

ليست ثمة فرصة لأي باحث يريد التعرف على النمط الفوضوي من حواراتنا العربية أفضل من مشاهدة حلقة أو أكثر من برنامج «الاتجاه المعاكس» الذي يقدمه الدكتور فيصل القاسم منذ سنوات على قناة «الجزيرة». فهذا البرنامج مثال جيد يختزل الكثير من غوغائيتنا العربية، ففي هذا البرنامج الكل يصرخ بمن فيهم مقدم البرنامج، ويوشك أن يصدق على الجميع القول «إذا ضعفت حجج المرء زاد رنين مفرداته». وكثيرا ما ينسى الدكتور فيصل القاسم دوره المفترض أن يكون حياديا ليقف فجأة في الصف المقابل مع هذا أو ذاك حسب مجريات رياحه، ومقتضيات «الفزعة» متغافلا عن كل المتعارف عليه إعلاميا في مثل هذا النوع من برامج المواجهة.

ومما يزيد الصورة عتمة أن مقدم البرنامج يبدو وكأنه يختار بعض ضيوفه أو ضحاياه بعناية فائقة، بحيث يراعي عدم التكافؤ بين المتناظرين بالصورة التي تسمح بانتصار الأفكار التي يتحزب لها القاسم، حتى أنني لأستطيع أن أجزم بنتائج تلك الحوارات قبل بدئها رغم الإخراج الشكلي.

وأسلوب الإثارة الذي يستخدمه الدكتور القاسم في برنامجه أشبه بتلك الأساليب التي تقدم فيها حلقات مصارعة الثيران أو مباريات المصارعة الحرة المتفق على نتائجها مسبقا، وهذا الأسلوب بكل تأكيد ليس الأسلوب الذي ينبغي أن تطرح من خلاله قضايانا المصيرية والمحورية، وإنني لأشفق على بعض المفكرين الجادين القلائل الذين ذهبوا للمشاركة في ذلك البرنامج ليكتشفوا وقد دارت الكاميرا أنهم قد استخدموا من دون أن يدروا في حلقة من صراع الديكة حكمها لا ينقصه سوى أن يحضر الطبل والزمر وأن يقلبها «عشرة بلدي».

ولا أتخيل أن مفكرا أو مثقفا أو على درجة من الوعي يمكن أن يسلم أذنه وعقله وفكره لكل هذا الصراخ وتلك الفوضى، لذا لا غرابة أن يكون جل مشاهدي «الاتجاه المعاكس» من نوعية الجمهور الذي يبحث عن شيء يضحك عليه، ولو كان شر البلية.

وأنا على ثقة بأن القصيمي لو كان حيا لاستدل بهذا البرنامج على نظريته بأن «العرب ظاهرة صوتية»، ولصدقت فينا مقولة مارك توين «إذا رأيت جمعا من الناس يتكلمون وليس بينهم مستمع، فاعلم أن فوق تلك الحناجر الملتهبة رؤوس أوز تصفر لصيادها».

[email protected]