مفارقات المشهد الانتخابي في مصر

TT

الفوز الذي حققه الإخوان المسلمون في الانتخابات النيابية المصرية أثار أصداء عديدة في داخل مصر وخارجها، ترسم صورة مثيرة للمشهد الثقافي العربي، حافلة بالمفارقات والغرائب، ذلك أن الانتخابات أسفرت عن فوز الإخوان بثمانية وثمانين مقعداً في مجلس الشعب المصري (من بين 440 مقعداً)، وبالتالي فإنها أثبتت حضوراً غير مسبوق في المجلس، لم يتوافر لأي فصيل سياسي في مصر منذ خمسين عاماً، إلى جانب أننا إذا أضفنا حصة أحزاب المعارضة الأخرى فسنجد أن ربع أعضاء المجلس ينتمون للمعارضة، وهو ما يعني أننا سنكون بصدد مجلس نيابي قوي، لم تشهد مصر مثيلاً له منذ ثورة يوليو 52، وهو عنصر إيجابي يمكن التعويل عليه في كسر احتكار الحزب الحاكم وفي مسعى الإصلاحي السياسي، إلا أن الأمر لم يستقبل من جانب بعض المثقفين ومحترفي السياسة بما يستحقه من حماس أو حفاوة.. كيف؟

لم يقرأ الخبر بحسبانه تغييراً مهماً في موازين القوة داخل البرلمان، وفر للمعارضة صوتاً مسموعاً يتعذر تجاهله، رغم أن الأغلبية ما زالت محجوزة لصالح الحزب الوطني المهيمن منذ ربع قرن، وإنما تعامل معه البعض باعتباره مقدمة للانقلاب على النظام وتغييره، من ثم فإن هؤلاء لم يسألوا عما يمكن أن تقوم به المعارضة من خلال المجلس، في التعبير عن أشواق الناس وأملهم في الانفراج السياسي، وفي مواجهة مشكلاتهم الحياتية، وإنما عمدوا إلى طرح العديد من الأسئلة حول موقف «الحكم الجديد» من الأقباط والمرأة والمؤسسات المدنية والعلاقات مع الغرب... وصولاً إلى انفلونزا الطيور والسحابة السوداء والمسرح والسينما...إلخ.

لأنهم تجاهلوا حقيقة أن ما جرى لا يتجاوز كونه تطوراً جديداً في الأداء البرلماني من خلال مؤسسات النظام القائم، وصوروه بحسبانه إرهاصاً لإقامة نظام جديد، فإن ذلك كان مدخلاً للتلويح بما حدث في الجزائر وفي إيران ومع نظام طالبان في أفغانستان، والإشارة الصريحة إلى احتمال استنساخ تلك التجارب في مصر.

كان واضحاً أن إلقاء الأسئلة لم يكن يهدف إلى الاستفهام والاستيضاح، وإنما أريد به أن يستثير المخاوف وأن يشيع القلق بين الناس، ومن أسف أن ذلك الخطاب لم تعبر عنه بعض الأقلام والتعليقات في الصحف فحسب، وإنما تبنته أيضاً العديد من البرامج الحوارية من خلال قنوات الإعلام الرسمي، خصوصاً التلفزيون.

الطريف في الأمر أن الخطاب الإعلامي المضاد درج على وصف نجاح مرشحي الإخوان بأنه استيلاء أو انقضاض أو انتزاع، في حين وصف نجاح غيرهم من مرشحي الحزب الوطني بأنه فوز وكسب وتعبير عن ثقة الجماهير! وهي مفارقة لا تخفى دلالتها في التعبير عن التميز غير البريء

أيضاً كان مثيراً للانتباه أن نفراً من أولئك الذين تبنوا خطاب التخويف والتهويل، عرف عنهم أنهم من «الليبراليين» الذين ما برحوا يدعون إلى نزاهة الانتخابات وإطلاق الحريات العامة، ولكننا فوجئنا بتنديدهم بالنتائج حين أتت بغير ما يشتهون في ظل هامش محدود من الحرية، الأمر الذي وضعنا إزاء حالة من «الليبرالية الانتقائية»، التي يراد لها أن تأتي بـ«جماعتنا»، وذلك موقف عبثي في حقيقة الأمر، لا يختلف كثيراً عن موقف بعض الأنظمة التي ترحب بالتعددية السياسية ولا تمانع من إقامة كل «ديكورات» المشهد الديمقراطي، مشترطة شيئاً واحداً هو أن تظل قابضة على السلطة ومستمرة في مواقعها.

بالتوازي مع حملة التهويل من «خطورة» النجاح الذي حققه الإخوان، دأب البعض على التهوين من دلالة ذلك النجاح، عن طريق التشكيك في حجم ودوافع الذين صوتوا لهم، تارة قالوا إن الذين اشتركوا في التصويت حوالي خمسة ملايين شخص لا تزيد نسبتهم على 24% من جملة الذين يحملون البطاقات الانتخابية (32 مليوناً)، وهو ما يعني أن 76% من الكتلة التصويتية المصرية عزفت عن المساهمة في العملية الانتخابية، وفي تقديرهم أن الذين صوتوا للإخوان حوالي مليون شخص (الإخوان يقولون مليونين) وبنوا على ذلك أن الدعم الشعبي لهم محدود للغاية (يتجاهلون أن الحزب الوطني يحكم البلاد منذ ربع قرن مستنداً إلى نفس النسبة التصويتية الضعيفة ولم يطعن أحد في شرعيته).

ولمزيد من التهوين من شأن النجاح فإنهم أضافوا أن الذين صوتوا للإخوان لم يكونوا كلهم من مؤيديهم المنتمين إليهم، ولكن هناك كثيرين صوتوا لهم احتجاجاً على الحكومة وليس حباً في الإخوان، وهي حجة مقبولة نظرياً، لكنها ضعيفة إلى حد ما، لأنها تثير سؤالاً آخر هو: إذا كان هؤلاء يريدون أن يبعثوا برسالة احتجاج إلى الحكومة، فلماذا ذهبت أغلبيتهم إلى الإخوان، ولم يصوت أحد منهم لأحزاب المعارضة العشرة الأخرى التي شاركت في الانتخابات، وذلك لم يحدث، فهو دال على أن تصويتهم لصالح الإخوان كان محملاً بدوافع أخرى غير مجرد الاحتجاج على الحكومة.

الملاحظة المهمة في هذا الصدد أن حملة التعبئة المضادة التي اعتمدت أسلوب التجريح والتخويف أسفرت عن نتيجة معاكسة، فرفعت بصورة نسبية من شعبية الإخوان ولم تنفر الناس منهم، وفي حدود علمي فإن تقريراً أعد في أعقاب تشديد الحملة من خلال أحد البرامج التلفزيونية المستحدثة، كانت خلاصته أن «المشتمة» التي نصبها على مدى عدة أسابيع كانت خطأ سياسياً وإعلامياً فادحاً، لأنه بسببها اتجهت أبصار البعض صوب الإخوان، مما أدى إلى خسارة الحزب الوطني لأكثر من 25 مقعداً في مجلس الشعب (لا أعرف كيف قاسوها وحسبوها).

أما الملاحظة الأهم فهي ان الهجوم كان شديداً في حملة التعبئة المضادة على ظهور الدين في المشهد، سواء في فكرة رفع شعار الإسلام هو الحل، أو في مبدأ المزج بين الدين والسياسة، أو في استخدام الصفة الإسلامية في اسم حركة الإخوان التي طالبها البعض على شاشة التلفزيون بحذف كلمة «المسلمون»، بحجة أن في التسمية شبهة الاستئثار بالانتماء إلى الإسلام، وتجريد الآخرين من ذلك الانتماء (لم يقل أحد إن الحزب «الوطني» الحاكم يحتكر الوطنية وأن غير المنتمين إليه ليسوا وطنيين)، وإزاء تواتر الإشارات المعبرة عن تصاعد الحساسية إزاء مسألة الدين ورفض الاعتراف بأن تعاليم الإسلام تتضمن منظومة للقيم تغطي حياة المسلم كلها، في عباداته ومعاملاته وأخلاقه، فإن ذلك سلط ضوءاً قوياً على وجه آخر للمسألة كشف عن صلتها الوثيقة بالصراع العلماني الإسلامي، الذي يتمحور حول دور الدين في الحياة، وما إذا كان ينبغي أن يكون فاعلا في تأسيس المجتمع المدني الإسلامي، أم يتعين إقصاؤه أو تهميشه في المجتمع المسلم.

لم يخل الأمر من مفارقة، حيث وجدنا في نهاية المشهد الانتخابي اصطفافاً، بمقتضاه اجتمع دعاة احتكار السلطة مع غلاة العلمانيين الرافضين للإسلام مع محترفي السياسة الكارهين للإخوان، حيث وقفوا جميعاً على أرضية واحدة رافعين رايات الدفاع عن الليبرالية والدولة المدنية، وفي المقابل وقف مع الإخوان بعض العناصر الوطنية التي ضمت خليطاً من العلمانيين المعتدلين والليبراليين الحقيقيين، وقد رفعوا رايات الدعوة إلى الإصلاح السياسي بإلغاء قوانين الطوارئ وإطلاق الحريات ومكافحة الفساد...إلخ.

المشهد بمفارقاته المختلفة يعيد إلى الأذهان ما جرى في تركيا في عام 1970، حين سمحت الأجواء الديمقراطية في البلاد بتأسيس أول حزب سياسي إسلامي (حزب النظام الوطني) بقيادة نجم الدين أربكان، الأستاذ بجامعة استنبول، وهي الخطوة التي هيجت شرائح العلمانيين المتطرفين، فثارت ثورتهم وانطلقوا صائحين، محذرين من الخطر الذي يهدد الجمهورية الكمالية، رغم أن مؤسسي حزب النظام كانوا في منتهى الحذر، ولم يشيروا إلى الدين أو الإسلام بكلمة، ولكنهم فقط تحدثوا عن «الأخلاق العالية والفضائل السامية»، أدت التعبئة المضادة ـ ضمن أسباب أخرى ـ إلى قيام انقلاب عسكري في العام التالي مباشرة، ترتب عليه حل حزب النظام الوطني، ولكن عناصر الحزب استفادوا من الهامش الديمقراطي المتاح وأسسوا في عام 72 كياناً جديداً باسم «حزب السلامة الوطني»، الذي شارك في انتخابات عام 73، وحصل على 11.8% من أصوات الناخبين، الأمر الذي أهله للمشاركة في الحكومة الائتلافية التي شكلت في العام ذاته برئاسة يولندا جاويد، رئيس حزب الشعب، وكانت تلك أول مشاركة للإسلام السياسي ـ بلغة هذا الزمان ـ في السلطة، وهي المشاركة التي اتخذت صوراً عدة، لأن حزب السلامة جرى حله في أول انقلاب لاحق (عام 80) فشكل نجم الدين أربكان حزب «الرفاه»، الذي حقق نجاحاً كبيراً في انتخابات البلديات عام 94، ونجاحاً نسبياً في الانتخابات البرلمانية عام 95، وتحت ضغوط المؤسسة العسكرية استقال أربكان من رئاسة الحكومة، وأغلق الحزب في سنة 97، لكنه عاد إلى الظهور لاحقاً تحت اسم حزب «الفضيلة»، الذي لا يزال قائماً إلى الآن.

ما يعنينا في هذا الاستعراض أن الهامش الديمقراطي الذي أتيح في تركيا أكسب الإسلام السياسي خبرات تطورت منذ عام 1970، الأمر الذي أفرز في نهاية المطاف حزب العدالة والتنمية، الذي فاز في انتخابات عام 2002، وبات يضرب به المثل في الاعتدال الإسلامي.

إن السؤال الذي تطرحه هذه الخلفية هو: لماذا نتعجل الحكم واستباق الأشياء، ولا نصبر حتى يتعلم الجميع ويطوروا أفكارهم وخبراتهم، ولماذا نستدعي نموذج طالبان في أفغانستان ونتجاهل النموذج التركي الذي يمكن القياس عليه في مصر؟

سوف تختلف الإجابة لا ريب، باختلاف المجيب، وما إذا كان ليبرالياً حقيقياً أو ليبرالياً مغشوشاً.