انتخابات العراق.. الترجيح بين الوطن والطائفة

TT

ردَ مسعود البارزاني، رئيس إقليم كردستان، على استفسار متخابث: ما هو موقف الزعامة الكُردية لو انفجرت حرب أهلية بالعراق، لا سمح الله، (وعبارة لا سمح الله مني وليس من صاحب الاستفسار)؟ قائلاً: «نعلن الانفصال عن العراق»! لحماية الكُرد. وقبل شهور أعلن عبد العزيز الحكيم، رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية ورئيس قائمة الائتلاف، من النجف فيدرالية الجنوب والوسط لحماية الشيعة من الإرهاب. وبين فترة وأخرى يعلن حارث الضاري، أمين هيئة علماء المسلمين، وعدنان الدليمي، رئيس الوقف السُنَّي السابق ومستشار رئيس الجمهورية الحالي، ضرورة حماية المحافظات الغربية، وأهل السُنَّة عامة، من إرهاب مضاد. هذا ما يعلنه الوجيهان السُنيَّان، وما تتصدره جريدة «البصائر» لسان حال الهيئة. يضاف إليهما الحزب الإسلامي العراقي، وريث حركة إخوان المسلمين بالعراق.

قد لا يُلام مسعود البارزاني على ما ذهب إليه، بعد تنعم الكُرد طوال هذه الفترة بسلام وديمقراطية سياسية واجتماعية، ومبرره هو إبعاد أبناء طائفته مما يريد إشعاله البعثيون العلنيون والسريون والإسلاميون التكفيريون من حرب أهلية بين الطائفتين الرئيسيتين: السُنَّة والشيعة. وتراه لا يريد التورط بين جماعات ما زالت تستكثر أن تكون الكردية لغة رسمية إلى جوار العربية في الدستور، وأن يشار إلى الاعتراف بوجوده القومي.

وقد لا يلام عبد العزيز الحكيم وبقية صحبه على التلويح بالفيدرالية، وترى الإرهاب يلاحق أبناء طائفته بالأسواق والمستشفيات وكراجات النقل، وعلى الجسور وفي كل مكان، مذابح من هولها لا تخلو الشوارع من مشاهد الجنائز، وما أكثر التوابيت الرمزية، فالأحزمة الناسفة، وكميات المتفجرات الهائلة لا تترك غير عظام ولحوم متناثرة، مثلما حدث لأخيه محمد باقر الحكيم بالنجف.

وقد لا يلام حارث الضاري أيضاً ووجهاء طائفته من معاداة الحكومة، وبالتالي التشبث بمشروعية المقاومة، فهناك اغتيالات طالت أعضاء في الهيئة، والتعرض لتصفيات منظمة، وتهديد بالتهميش بذريعة الأكثرية، واستئثار غير مخفي في الدولة. كيف يتصرف الضاري، صاحب المذهب الرسمي لمئات السنين، وهو يرى الوزارات قد غلفت بصور آل الصدر وآل الحكيم وآل السيستاني. وعلى خلاف المألوف تقيم وزارة الثقافة حفلاً تأبينياً لمحمد صادق الصدر، مع أن الأخير لم يحسب لا على الشعراء ولا الفنانين ولا كاتبي القصة! وربما وجود وزير ثقافة سُنيَّ سيقلل، بعض الشيء، من طائفية الحدث وحزبيته.

نعم، لدى وجهاء الطوائف الثلاث، أصحاب القوائم الكبرى في انتخابات الغد المنسقة على أساس الطائفة لا العراق، مبرراتهم في ترجيح الطائفة على الوطن: بعداً عن حرب، ورغبة في استقرار، وتأكيداً لحقوق تاريخية، أو دفاعاً عن النفس ضد الإرهاب، أوخشية من تهميش، وتدخل جار جعل في الدستور مادة توكد خدمة رئيس الجمهورية للمذهب! ويطالب بالثأر لقتلاه من العراقيين، وقد بدأ ذلك باغتيال عشرات الطيارين، والغالب منهم من الشيعة، وهي تهمة قوية موجهة إلى اطلاعات إيران. لكن، مع فرض صحة كل ما تقدم، هل التحصن بالطائفة، والابتعاد عن الوطن، هو الحل الأمثل لمواجهة ما تقدم من رزايا؟ تشير المؤشرات إلى أن هناك رغبات غير محجوبة لدى المتصدين للعمل الحزبي المبني على أساس طائفي، رغبات بإبقاء الانتماء والتكتل للطائفة فوق الوطن، والأدلة على ذلك كثيرة.

بشرت عبارة مسعود البارزاني، السالفة الذكر، بهشاشة الانتماء للعراق، رغم تقديرنا لموجعات الكُرد من حروب الإبادة المتكررة. وأشارت إلى أن ما يجري ببغداد مجرد لعبة ستنتهي يوماً ما. يضاف إلى ذلك، وحتى هذه اللحظة، ليس هناك مظهر داخل كردستان يشير إلى العراق الكبير والوحدة العراقية أكثر من الإشارة إلى كردستان الكبرى، وحال الحديث عنها سيمسي مثل حال الحديث عن دولة العرب الكبرى. حلم حلمَ به الحالمون ومضوا، وأبقوا آثار التعصب القومي تتحول إلى سلاح فتاك ضد القوميات الأخرى، وفي مقدمتها القومية الكُردية.

كذلك أكدت دعوة عبد العزيز الحكيم، والمؤتمر الأمني لمحافظات الوسط والجنوب الأخير، أن وجهاء الأحزاب الشيعية يرغبون بعراق آخر، تعلو في أجوائه سواتر عازلة. والأهم هو التحكم بالجنوب والوسط، وتحقيق فكرة الدولة الدينية من تحت عباءة الديمقراطية، وهي المستحيلة على امتداد العراق، والممكنة حالياً في الأقل على جغرافيا الطائفة. فماذا يُنتظر من لافتات انتخابية بمدينة الناصرية تحرض عل انتخاب المذهب! لأن قوائم أخرى تقول: انتخاب العراق؟ وكيف فارقت الحكمة الحكيم عندما وصف الآخرين بالأمويين؟ أيعني استحضار أجواء صفين وكربلاء، والمواجهة بين علويين ونواصب، وفرضها على العصر الراهن؟ ومعلوم، أن استحضار الماضي لشحن النفوس بالكراهية عبر وسائل الإعلام فكرة خطيرة، توهم الأتباع أن قتلة الحسين أمامكم! فما هو وجه العدالة في الدعاية الانتخابية إذا أُدخل فيها اسم الحسين؟ مع أن القائمة المقصودة بالأمويين، لها حضورها القوي بسامراء السنُيَّة وبالناصرية الشيعية.

وبالمقابل لم يتردد حارث الضاري وزملاؤه من طعن وحدة العراق، عندما وجدوا في عدم إدانة الإرهاب طريقاً لتثبيت حكم الطائفة، بعد أن جعلوا من كهوفه بالمنطقة الغربية مقاومة للاحتلال. يسعون إلى ذلك رغم أنهم اعترفوا بفداحة خطأ عدم المشاركة في الانتخابات السابقة، وشدوا العزم على خوضها بقوة، وهو الموقف الصحيح، ولم يحصل هذا إلا بعد ضغط جماهير السُنَّة. خلا ذلك، أن من حق العراقيين، وفي مقدمتهم ضحايا نظام البعث، من المنطقة الغربية بالتحديد، التساؤل عما إذا صدرت كلمة واحدة، من الضاري، ضد الجائر المخلوع؟ وقد أقفل الأفواه إلى حد الموت؟ فإن حصل هذا سيخفف بالتأكيد دهشتنا من غلو زعامة الهيئة في محاربة البديل.

لا يخفى تأثر مواقف وجهاء الطوائف كافة بسلوك النظام السابق من دون قصد. لقد قسمت ممارسته العراق إلى جنوب ووسط شيعيين مشكوك بولائهما. وشمال كردي جباله ووديانه دار حرب. وغرب سُنَّي، الولاءات فيه على درجات، ذروتها محصورة بتكريت والعوجة وآل المجيد. نجد النموذج يتكرر في ممارسة الكيانات الكبرى، وشرعنة لتركة الأمس، فولاءات اليوم مشروطة بالطائفة، وتضيق حلقتها عند ذوي القربى. يستولي المتحزبون، باسم الحق الطائفي، على ما فوق الأرض وما تحتها، إلا أن «عراق الناسِ كالناسِ ينادي أين حقي»؟