عمارة الحرية

TT

بلغت «النهار» الثانية والسبعين من العمر، واعتقد انها اليومية الأقدم بعد «الأهرام». وكان سرها طوال هذه العقود، انها وقفت دائماً الى جانب الحرية. كان مؤسسها جبران تويني وزيراً للتربية وسفيراً، اضافة الى مسؤوليته الصحافية. وكان ابنه غسان تويني نائباً في الخامسة والعشرين من العمر، ثم وزيراً وسفيراً. وكان جبران تويني الحفيد يحاول اقتداء سيرة الجد والأب فبلغ النيابة لكنه اغتيل شاباً قبل اكمال الطريق.

الذي اغتال جبران تويني اراد اغتيال استمرارية «النهار». منذ سبعين عاماً وهي تنادي بالحرية. وبسبب الحرية لم يبق سجن إلا ودخله غسان تويني. لكن احداً لم يكن يعتقد بان الحياة نفسها سوف تصبح ثمناً لمناقبية «النهار» ومواقفها وصوت مديرها العام في معركة الاستقلال. ثمة وحشية معلنة في اغتيال جبران تويني. او بالأحرى وحشية مطلقة.

على مدى عقود سبعة وقفت «النهار» في المعارضة ضد الممالأة. وكانت صوت الناس لا صوت الدولة. ولعبت «النهار» الدور الأول في اسقاط حكم «المكتب الثاني» وخنق الحريات. وكانت المؤسسة الكبرى الوحيدة التي لم تأخذ في الحرب جانب أحد. وظلت في قلب بيروت تتعرض للقصف والخطف والدمار. لكنها لم تغلق بابها يوماً واحداً ولم تغير موقفها يوماً واحداً.

هذه سيرة نادرة جداً في صحافة العالم العربي. فالصحف الكبرى في مصر أممت ووضعت في البداية تحت إشراف الضباط والمخافر. وصحف دمشق وبغداد ازيلت من الوجود لتقوم مقامها صحف الحزب. وصارعت الصحف اللبنانية اسباب البقاء ونوازع الزوال. وبقيت «النهار» الصحيفة الأولى. وعندما اضطرت، لأسباب اقتصادية حاسمة، ان تضاعف سعر مبيعها، خُشي ان تفقد مرتبتها في التوزيع كجريدة اولى. وقد تأثرت فعلاً. لكن الذين تخلوا عنها في الاوضاع الاقتصادية المتدهورة، ما لبثوا ان عادوا اليها. فالحقيقة ان «النهار» ثقافة وحزب وتجمع. حزب الاحرار والصادقين والمثقفين والصدور الوسيعة. لم تنزل يوماً الى الصغارة. ولم تخض معركة مع صحيفة. ولم تأت على ذكر زميل إلا بالخير. وبذلك كانت مدرسة وطنية واخلاقية بالدرجة الاولى. والذين اغتالوا جبران تويني ارادوا اغتيال شعلة الوطنية والاستقلال الدائمة. وشعلة الإصلاح والتقدم والرقي والحداثة.

ولذلك خرجت «النهار» أمس بعنوان عريض يقول للقاتل: «جبران تويني لم يمت».