جدار الرقابة

TT

ما زلت أذكر جيدا منذ عشر سنوات تقريبا ذلك الموظف في المطار الذي قام بكسر مجسم صغير لوجه فيلسوف إغريقي كان بحوزتي أمام ناظري ممعناً في تأكيد سلطته الوظيفية التي كنت متأكدة أنها لا تنسجم أبدا مع مفهوم إهانة البشر، كما أنني ما زلت اذكر موظف مكتب الرقابة في المطار الذي أحيلت إليه كتب كنت أحملها، وبدلا من أن يشرح لي طبيعة القانون الذي يلتزم به حيال كتبي أخذ يسألني عن مرجعي القبلي، وحين أخبرته أنني باحثة اجتماعية من مهمتها قراءة الكتب ـ كنت وقتها أحضر لأطروحة الماجستير ـ ما كان منه إلا أن سألني إن كنت أحمل ما يثبت حاجتي لهذه الكتب من الجامعة أو ما شابه.

اليوم لم تعد الكتب ولا المجسمات الصغيرة محل مصادرة، فقد أصبحت الحقائب تمر تحت أجهزة الكشف عن مصادر الخطر الأخرى التي لم يعد الكتاب ضمن قائمتها، فقد صارت مصادرة الكتب من حكايات الماضي البائدة، ومستحيلات الحاضر، وصارت الكتب التي كنا نتكبد عناء جلبها من الخارج سرا، مثل روايات نجيب محفوظ وغادة السمان وحنا مينة، تباع في أقرب مكتبة في الرياض.

سقوط جدار برلين كان رمزا لسقوط عزلة المدن والثقافات في العالم، وخاصة بعد دخولنا عصر الموجة الثالثة.. عصر المعلومات التقني الذي سمي عصر العولمة، حيث انهزمت فيه الجدران الأرضية وتغيرت وسائل النقل من رحلة القوافل الصحراوية إلى فضاء المعلومات والأفكار والرؤى المتنوعة، تساهم في تنقلها عبر الفضاء العالمي وسائل العولمة الثلاث: الإنترنت والفضائيات والهاتف الجوال، هذا الانطلاق بث حماسه وانتشرت عدواه بين صفوف المشتغلين بالكلام والشغوفين بالفهم والمتلمسين للحوار وطالبي الخروج من عزلة الروح بالتحاور مع الآخرين.

في السعودية حين عز المكان وتشتت شمل المثقفين وطالبي الثقافة، وحين كفت مؤسسات الثقافة عن عملها في إشاعة الثقافة بين أهلها والمنتسبين، شاعت ظاهرة الملتقيات والأماسي المتكلمة في شؤون الحياة المتخصصة، بعضهم شغل بالتراث وبعضهم بالمستقبل، انضوى المثقفون في تجمعات حرة نسبيا وتحويلها للقاء منظم.

أطرف ما شاع منها ما سماه صاحبها بمشروع «وقف الكلمة» لتبادل الكلام الحر نسبيا والتجول في عقول الآخرين بما حملت من علوم.. هذا اللقاء دبره مثقف من مدينة الرياض في مقهى شعبي لا يكلف المقهى سوى مساند من قطن و«برادين» شاي، ونادلٍ رخيص الأجرة، فلا منزل يضيق بالعدد ولا زوجة تتذمر من كثرة الطلب، وبالمقابل فإن الملتقى الشعبي الذي لا يهين من قدره يؤصل منهجه بنهج تراثي قديم بدأ في الأصل في المقاهي الشعبية قبل المنازل مثل مقاهي مصر الشهيرة للتجمعات الثقافية كمقهى الفيشاوي ومقاهي السيدة زينب والحسين.

وزير الثقاقة والإعلام في لقاء له سأل موظفيه سؤالا ساخرا معناه في بطن سخريته يقول كيف حققت رواية «بنات الرياض» كل هذا النجاح فاشترى السعوديون الرواية التي أعيد طبعها للمرة الثانية بعد أشهر من صدورها، وكتب عنها في معظم الصحف السعودية وكتب عنها بعض الكتاب السعوديين وخرجت في الفضائيات العربية مرتين وهي حتى اليوم لم تنلْ بعد تصريحا من إدارة المطبوعات لإجازتها؟!

[email protected]