وسطية «سلمان» بين سباع الانفلات ووحوش التشدد

TT

كنت أتجاذب مع الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض، وسط السعودية، في لقاء جمعني به مؤخرا أطراف الحديث عن خطورة تآكل منطقة الوسطية والاعتدال لصالح التشدد والتطرف، التطرف الليبرالي والتطرف الديني على حد سواء، وذلك في معرض الحديث عن اعتزال الداعية السعودي، الدكتور عايض القرني، لمدة شهر والجهد الذي بذله الأمير لثني الشيخ عن قراره. لقد فهمت من حرص الأمير على متابعة حالة الدكتور القرني إحساسه بحاجة المجتمع إلى العالم الوسطي والشيخ المعتدل والمفكر المتوازن والمثقف المنصف، خاصة أن منطقة الوسطية والاعتدال صارت تنتقص من أطرافها، وأضحت سباع الانفلات ووحوش التشدد تنهش تماسكها وتنهك بنيتها لتصبح هدفا للمتوترين والنزقين من الطرفين المتطرفين.

قد يقلقُ الأمير لفقدان الساحة لرقم مؤثر في معادلة الاعتدال كالدكتور القرني مع أن المملكة تزخر بكوكبة كبيرة من العلماء والمفكرين وطلبة العلم والدعاة من السهولة أن تحشر نسبة جيدة منهم في منطقة الاعتدال، ولكن في ظني أن الذي أقلق الأمير أكثر وأقلقنا معه هو الخوف من أن مثل هذه الحالة النفسية والعاطفية التي يمر بها أي فرد عنده ملكة التأثير في الجماهير أن يستغلها أحد في زحزحته وجرجرته من هذه المنطقة الوسطية التي يحرص كل عاقل على تكبيرها وتوسيعها وتكثير سوادها.

ومع تسليمنا بأن لقادة العلم والفكر دورا مهما في الحفاظ على سياج الوسطية والاعتدال، إلا أن للقادة السياسيين أيضا دورا مؤثرا وأكثر خطورة إما في حماية منطقة الوسطية من التقلص والتآكل، وإما الانقضاض عليها وقضم سياجها وبعثرة حدودها. وإن منهجية رجل دولة ناجح مثل الأمير سلمان في التواصل مع الأطياف الفكرية المختلفة وتقديرها وتعزيز اعتدالها بل التغاضي عن مشاغباتها والتغافل عن مشاكساتها، مفقودة عند عدد من الزعامات السياسية العربية، خاصة منها تلك التي تتبنى ليبرالية نزقة نكلت من خلالها بالتيارات الإسلامية بدون التفريق بين معتدلها ومتطرفها أو صحيحها وسقيمها، وضيقت عليها وحاربتها وعذبت قادتها واتهمتهم بالخيانة وأسبغت على جموعهم بعشوائية سخيفة أوصاف الخوارج والزنادقة و«المكفراتية» وزجت بعشرات الألوف من أتباعها في السجون، مما جعلهم يشتمون التوازن ويلعنون الوسطية ويكفرون بالاعتدال، والنتيجة الحتمية أنهم يخرجون من المعتقلات أشد تطرفا وأكثر نقمة على ما يسمونها الحكومات الظالمة والشعوب المخدرة والعلماء المهادنين.

المضحك في الأمر أن هذه الزعامات السياسية العربية القمعية تشكو من التطرف والتكفير والتفجير. وتعقد لهذه المشكلة المؤتمرات والندوات في بحث مصادر الإرهاب والغلو والتطرف مع أنها بسياساتها القمعية الدموية وتعاملها العنيف مع الدعاة والعلماء والمفكرين تشكل أحد المصادر الرئيسة المغذية للإرهاب والتطرف والتكفير، وهي التي تدفع ـ بسبب هذا الإقصاء العنيف ـ هذه الرموز المؤثرة من منطقة الوسطية إلى أطراف التشدد، ومن واحة الاعتدال إلى أوحال التطرف.

لك أن تسبر أحوال الدول العربية دولة دولة، ولك أن تقارن أحوال التطرف والعنف الديني فيها ستجد أن هناك قاعدة لا تكاد تنخرم، إذ كلما كانت الدولة أكثر استيعابا للتوجهات الإسلامية المعتدلة فيها بدمجها في حياتها السياسية والفكرية والاقتصادية وأكثر تواصلا مع رموزها العلمية والفكرية، وكلما أحسن حكامها وساستها التعامل مع علمائها ومشايخها ودعاتها ومفكريها توسعت منطقة الوسط والاعتدال وقلت حوادث التكفير والتفجير، والعكس صحيح. والنتيجة الحتمية بل الهدف المطلوب في النهاية هو التضييق على منطقة التطرف بنوعيه الليبرالي والديني وتقليص مساحته وتقويض أساساته وانتقاصه من أطرافه. هذه ـ كما أتوقع ـ هي أمنيتكم وأمنية الأمير سلمان بل أمنية كل حكيم ومعتدل في عالمنا العربي.

[email protected]