جدّان، حفيدتان، مجنونان

TT

جدّان، الأول صحافي والثاني رسام. الأول، له حفيدة تدعى إيناس، الثاني تدعى حفيدته ليان. اتفق الجدّان على مشروع واحد من اجل الحفيدتين: مبنى؟ لا. مخزن؟ لا. شركة؟ لا. حساب مشترك؟ آسفون. غير متوافر. إذن، ما هو المشروع؟ الأول قدَّم نصه. الثاني قدم ريشته. بكل ألوانها. والنتيجة كتاب، بالنص الملون والريشة الملونة، عنوانه «نون الايناس، لون ليان». لا يمكن أن تخرج من معرض الكتاب العربي الحالي في بيروت، بعذوبة ألطف من هذا الكتاب. هناك كتب تاريخية كثيرة. وهناك سير كثيرة أهمها «رفيق الحريري، كتاب الحياة» الرجل الذي أمكن قتله وصعب موته. وهناك جغرافيا وعلوم وطبخ وطرائق إعداد الباذنجان. وهناك روايات وشعر. وهناك، هذه اللطافة المسرة: جدّان، الأول كاتب آيديولوجي عميق يتبسط فرحاً لكي يكتب إلى أميرته وسيدته الصغيرة، والآخر رسام كلاسيكي ينزع إلى الأسلوب «الساذج» لكي يرسم ألواناً من عالم حفيدته. ألوان فرحة، مبهجة، متلألئة مثل تساؤلات الأطفال وشكوكهم في عقول الكبار. وفي حكمتهم. مجموعة لوحات ومجموعة قصائد السنوات الكبيرة تفرح بالركوع أمام سنوات الحبو.

نص نصري الصايغ خروج معلن، ومغنى، على نصوص عمره الجدي والصعب، وألوان عادل قديح مثل باقة اختارها طفل من حافة الطريق في بداية الربيع. أنا اعرف نصري الصايغ محاضراً وكاتباً وناشطاً سياسياً دائم التوتر والقلق والشكوى. وعندما دعيت إلى توقيع الكتاب خلت أنه أمام إصدار جديد من هموم الأمة وعبوس الأيام. فإذا بي أمام الجد الوقور تخاطبه إيناس:

يراني أكتبُ فُتاتاً /يقول غدا أقلِّدكِ./ ولكنك طاعن في اللغة، / تسكن في الحروف./ يقول: علميني القراءة/ فما كتبته من زمان/ عَلَفٌ لماشية الزمان !

يقدم نصري الصايغ لهذا المزيج اللطيف من الصوت واللون بالقول:

«جدان كبرا في السن / صارا طفلين / الأول يدعى مجنون ليان / الثاني يدعى مجنون ايناس!

«يداه ترتجفان / تقول ايناس: / جدي يعزف على الهواء».

الجدّ يعزف على تعب الشيخوخة ولم يجد أحق من أن يعترف له سوى إيناس. فالأطفال وحدهم يعرفون الحقيقة ولا يخافونها. والجد وحده يعرف معنى تكوُّم السنين في أحداقه وعلى منكبيه وفي دفاتره التي، لكثرة ما تكونت، أصبحت أشبه بمخازن المطابع ودور التوزيع. في أحزان بيروت يرسم كهلان صورة فرحة استعاراها من دنيا الطفولة. الكبار حزانى وبائسون، ولا فرح في عالمهم. جيل لم يعرف سوى النكبات والتنكيل والأسى. وها هو محمود درويش يوقع كتابه الأخير. ويستعير من غور بيسان وجبل الكرمل ذكريات الطفولة وباقات الحب. الكبار بائسون وحزانى.