البقية في العدد القادم

TT

تعرفت عليه صدفة، أو بمعنى اصح هو تعرف علي (عنوة) وعن سابق عمد وإصرار، إنه لا يعرفني، ولا اعتقد انه أعجب بشكلي وخلقي وعلمي (ورزالتي) كذلك، لأنني لا املك من تلك الصفات الثلاث الأولى إلا النزر القليل، أما الرابعة (فحدث ولا حرج).. قدم نفسه إلي في احد المطارات ونحن نجلس متجاورين على كرسي طويل واحد، الرحلة كان عليها تأخير استمر بضع ساعات، اخذ في البداية يحدث نفسه مفضفضاً عما يعتمل فيها من ضيق، ثم التفت ناحيتي يسألني عن رأيي، أجبت ببضع حركات من يدي ورأسي دون أن أتفوه بكلمة واحدة رغبة مني في وضع حاجز بيني وبينه، وفيما كنت أحاول الوقوف لأبحث عن مكان آخر، وإذا بيده أسرع مني تمتد لمصافحتي، أعطيته يدي أو أخذها هو وهزها عدة مرات إلى أن جرى الدم في عروقها، ثم قال لي: محسوبك (فلان الفلاني) مراسل صحافي، قلت له: أهلاً وسهلاً، ثم أطبقت (براطمي)، فسألني وكأنه يحاصرني: وحضرتك؟!، فذكرت له اسمي (الحركي). وابتدأ المشوار بيننا، طبعاً ماذا تتوقعون من مراسل صحافي وهوايته أيضاً مثلما فهمت منه هي (التعرف على الغرباء)، وهذه هواية لأول مرة اسمع بها.

عندما وجد أني (مبلم) قليلاً، ولم استسغه بما فيه الكفاية، قال لي وكأنه يريد أن يعلمني: اسمع، لا غرباء في العالم، بل أصدقاء ينتظرون ساعة اللقاء.

والواقع لا ادري كيف سحبني من لساني عندما جاريته بالكلام، مؤكدا على جملته تلك، وقلت له: صحيح إلى حد ما، فكل أصدقائنا تقريباً كانوا غرباء عنا في يوم من الأيام، انشرح خاطره من مشاركتي إياه الكلام، وسألني سؤالاً محرجاً وودوداً في نفس الوقت، عندما قال: هل تقبل صداقتي؟!، وقبل أن أجيبه أخذت أتفرس في ملامحه لكي أتأكد أن سيماء رجال العصابات والاستخبارات ليست على وجهه ووجدت أن وجهه يشبه (الدمية) فداخلني شيء من الاطمئنان وقلت له: ليكن يا صديق أو يا رفيق.

ذهبنا وتناولنا بعض (السندوتشات) في بوفيه المطار، وأصر وحلف على أن يدفع هو الحساب، وعز عليّ أن اكسر خاطره ووافقت على الفور، ولو كنت اعلم لطلبت غداء كاملاً.

قال لي: تصور أنني قبل شهرين كنت تعرفت على سيدة لطيفة مثلك، وعرفت منها أنها مسؤولة عن إعادة تأهيل المجرمين الشباب بعد خروجهم من السجن، واخبرتني كذلك أنها متوجهة إلى قرية في المناطق القطبية الشمالية لمشاهدة الدببة، وتعرفت على مزارع اسباني لديه معاصر زيتون، وتعلمت منه الكثير، وعقدت صداقة مع سائق تاكسي في وادي الملوك بمصر، وكذلك على رجل عجوز اشترك في الحرب العالمية الثانية وقضى عدة سنوات في معتقلات الرهائن، وقص عليّ كل شيء عن العذاب والانتهاكات.. وقد استفدت من كل تلك الصداقات، وكتبت عنها (روبرتاجات) طويلة ومؤثرة وفجأة سألني: وماذا تعمل أنت وهل لديك قصة أو طموح أو هدف؟ تململت قبل أن أجيبه خوفا من الفشيلة لأن (فاقد الشيء لا يعطيه)، ومن حسن حظي أنهم في تلك اللحظة أعلنوا عن دخول الطائرة، فقلت له وأنا اشد على يده وابتسم ابتسامة منفرجة مع غمزة صغيرة من العين اليسرى: البقية في العدد القادم.

[email protected]