أم قشعم!

TT

كان الرقيب الصحافي في عهد الدولة العثمانية يلقب بـ (المكتوبجي) ولهذا طرائف ونوادر، ومنها أن السلطان عبد الحميد كان على خلاف مع أخيه مراد فأصدر (المكتوبجي) قرارا يمنع فيه الصحف من ذكر لفظ مراد، فلا يحق للكاتب أو الصحافي حتى أن يكتب عبارة مثل: (إن المراد من كتابة هذا الموضوع) أو ( إن مرادي أن يتحقق لي الشفاء) لكن أطرف ما يروى عن (المكتوبجي) أنه منع الصحف من أن تخلع على زعماء الدول لقب صاحب الفخامة أو صاحب العظمة وأن يكون ذلك حكرا على السلطان العثماني وحده، لكن ذلك (المكتوبجي) تفضل على الزعماء الآخرين بلقب (حشمتلو) فأراد أحد عفاريت الصحافة أن يحرج (المكتوبجي) فكتب خبرا عن ملكة بريطانية وقد استبق اسمها بلقب (حشمتلها) معتبرا أنها تأنيث لـ(حشمتلو)!!

وكان لي زميل في أيام بعيدة خلت يعمل على وظيفة تتشابه مع وظيفة الـ«مكتوبجي» فرضها أحد رؤساء التحرير لغربلة كل ما ينشر في صحيفته، والحق أن الشخص الذي أختير لهذه الوظيفة لديه قرون استشعار لمنع كل ما يمكن أن يزعج رئيس التحرير الذي منحه هذه الوظيفة المعتبرة، وقد مضت أحوال ذلك الزميل من حسن إلى أحسن وظيفيا حتى ابتلاه الله بظهور بعض التوجهات الحديثة في الأدب والغموض الذي يكتنف عددا من نصوصها، فغرق المسكين في «حيص بيص»، ولم يعد يعرف ماذا يجيز منها وماذا يبقي، وبدأت مكانته التقليدية في الاهتزاز، وهو يستعين بزملائه لتفسير نصوص غامضة يقال إنها تمتلك عدة مستويات من القراءة واحتمالات متعددة من التفاسير، وكان الزملاء يبالغون في تفسير النصوص لذلك «المكتوبجي» بصورة تزيده خوفا وإرباكا، وقد انتهي به الأمر إلى اعتزال هذا العمل صابا نقمته على الأدب الحديث الذي «سد نفسه» عن العمل، وعلى حرية الصحافة التي لم تعد في حاجة إلى عينه التي لا تنام..

وقد كنت أقرأ ليلة البارحة لشاعر عربي نصا من قصيدة يقول فيها:

«شهدوا أن التاريخ امرأة

صلعاء بعين واحدة

وبرأس مفتوق».

ووجدت حالي في وضع أسوأ من وضع صاحبي «المكتوبجي» حينما كان يغرق في بئر النص، فاتصلت به مداعبا وراجيا أن يعينني على الفهم، فلم التقط من صوته قبل أن يغلق السماعة في وجهي سوى عبارة: «حيث ألقت رحلها أم قشعم».

فأعدت الاتصال به ليس لشرح النص هذه المرة، ولكن لسؤاله على وجه التحديد : أين ألقت رحلها أم قشعم؟!

[email protected]