ملفات القضايا الكبرى: كيف تفسدها (السياسة الفاسدة)؟

TT

قد تتوقد همة طالب في العلوم السياسية: ألمعي التفكير، من الضمير، رفيع الحس الانساني. قد تتوحّد همة طالب من هذا النوع في هذا المجال من اجل نيل الدكتوراه في موضوع «اثر السياسة الفاسدة في القرارات السياسية وفي حياة الامم والعلاقات الدولية».. ولئن عقد هذا الطالب: العزم على ذلك، فانه واجه ـ بيقين ـ مادة علمية خصيبة جدا في التاريخ السياسي البشري: القديم والحديث.

والنقيض يظهر نقيضه ويجلّيه.

فاذا كان تعريف السياسة الصحيحة النافعة الراشدة هو «ادارة الدولة وتصريف شؤون المجتمع بمقتضى الحكمة والمصلحة اقتضاء مجردا من الاستبداد بالرأي، ومن الاهواء والمفاسد الشخصية، ومن فقدان كفاءة اتخاذ القرار»، فإن السياسة الفاسدة هي نقيض ذلك.

وهذا فرقان ضروري لكي لا تُذم السياسة بإطلاق، ولئلا تمدح بإطلاق. فهناك من علماء السياسة، ومن المثقفين والاعلاميين من يعد الانتهازية السياسية القائمة على الوضاعة الاخلاقية، وعلى ظلم الآخرين، وعلى ربط مصائر الامم بالأمجاد الشخصية: يعدون ذلك مهارة او نجاحا سياسيا!! (وفي عالمنا العربي خلق كثير من هذا النوع).

وخلاصة ما توصلنا اليه في هذا الحقل: ان السياسة الفاسدة ما دخلت في شيء إلا افسدته. وما حاقت بأمة الا أضرت بمصالحها، وقبحت صورتها في العالمين تقبيحا يطوح بالثقة بها تطويحا.

وهذه نماذج للتدليل والتوثيق:

1 ـ بعد الخراب والدمار. وبعد بحور الدماء وعشرات الألوف من القتلى ومئات الألوف من الجرحى والمعوقين. وبعد تشوه الصورة. وتدني المصداقية. وتدهور الثقة. وبعد ارتفاع معدلات الارهاب بنسبة 700% ـ تقريبا ـ في السنوات الاربع الاخيرة.

بعد هذا الخسران والكرب الشديد والرهق المعنت: اعترف الرئيس الامريكي جورج بوش بأن «قرار الحرب على العراق اتخذ بناء على معلومات استخباراتية خاطئة».

وهذه شجاعة نسبية.. نعم.. ولكنها شجاعة متأخرة جدا.. ونأمل (بمقياس اخلاقي هو: اننا لا نلتمس للأبرياء العيب).. نأمل ألا يكون هذا الاعتراف بدافع سياسي حزبي انتخابي وهو: تجديد الخصم الحزبي من توظيف حجة عدم الاعتراف في النيل من الحزب الجمهوري في الانتخابات القادمة، ولا سيما انتخابات الكونجرس. كما نأمل ألا يكون هذا الاعتراف (تغطية) لخطيئة اكبر جهر بها (جيمس ايكنز) السفير الاميركي الاسبق لدى السعودية حيث قال: «ان الحرب على العراق شنت لأن شارون يريد ذلك».. وبديه ان (الخطأ في التقرير الوطني) يظل ـ على ما فيه من أضرار وطنية جسيمة مروعة ـ : أهون من خطيئة شن حرب يموت فيها الشباب الامريكي من اجل دولة اجنبية هي اسرائيل، واستجابة لرئيس وزراء دولة اجنبية هو أريل شارون.. فالتضحية بالمصلحة العليا للوطن في سبيل خدمة أوطان اخرى، لا يسمح بها ـ قط وعلى كل حال ـ : مقياس المصلحة الوطنية، وانما تحصل هذه التضحية العجيبة ـ غريزة وعقلا ـ من خلال السياسة الفاسدة.. والكلام الصريح الصاعق الذي جهر به السفير الامريكي الاسبق: يؤيد بشهادات امريكية اخرى منها: ما قاله الجنرال الامريكي باستر غلوسون إذ قال: «المسؤولون عن الحرب على العراق هم مخططون آخرون، ولكنهم لا يخدمون المصالح الامريكية، ولا الأمن القومي الامريكي».. وما قاله الاعلامي الشهير، والسياسي الجمهوري بات بوكا نان حيث قال: «ان اللوبي اياه الذي يورط امريكا في الحرب على العراق يخدم مصالحه من خلال الإضرار بالمصالح الامريكية. لقد اصبح الليكوديون هم الذين يمتلكون زمام الامور، ولا شك ان ذلك يصب في مصلحة شارون لا مصلحة جمهوريتنا».. وهكذا تفسد الأجندات السياسية الفاسدة: السياسة الوطنية الخالصة التي ينبغي ان تكون والتي يجب ان تتجرد لخدمة الوطن: اولا. وثانيا، وعاشرا، وألفا، وتريليونا.

2 ـ ان (السياسة الفاسدة) هي التي حجبت الحقيقة في مقتل الرئيس الامريكي الأسبق: جون كنيدي. فعلى الرغم من مرور 42 عاما على جريمة الاغتيال تلك لا تزال الحقيقة الرسمية مجهولة او معتم عليها، صحيح ان شبهات جديدة احاطت بموقف خليفته ليندون جونسون، ولكننا نتحدث عن (المعلومات والحقائق الرسمية) المغيبة حتى الآن. وهي قد غيبت لأن السياسة الفاسدة لا تريد للأمة معرفة الحقيقة.. ويستنبط من هذا أن السياسة الفاسدة تعطي نفسها وصاية مطلقة على المعلومة الحساسة، وعلى الادعاء العام، وعلى لجان التحقيق، وعلى القضاء، وعلى الرأي العام الذي ينبغي ان يعلم ولا يجهل فـ(أوزوالد) المتهم الاول في جريمة قتل الرئيس كنيدي، قتل هو ذاته وهو في طريقه الى مكتب التحقيق الفدرالي!! كما قتل اكثر من 70% من المشتبه بهم في هذه القضية!! وقد شكلت لجنة برئاسة القاضي وارين، ولكنها لجنة كانت عقيمة النتائج من جهة، وتعصف بها الشكوك والريب من جانب آخر. يقول السيناتور الامريكي الاسبق: ريتشارد شوايكر: «اعتقد ان لجنة وارين شكلت لإلهاء الامريكيين، وذلك لأسباب غير معروفة حتى الآن. ان احدى اكبر عمليات التغطية والتضليل في تاريخ بلادنا تمت في هذا الوقت».. وتقول مجلة «تايم»: «توضح ملفات التحقيقات الاتحادية ان لجنة وارين فشلت فشلا ذريعا في الكشف عن ادلة المكتب التي تربط بين جاك روبي: قاتل اوزوالد وبين المجموعة الاجرامية».. ومن هنا شكلت لجنة اخرى من الكونجرس للتحقيق في عملية الاغتيال الكبرى هذه. وبعد عامين من العمل افادت اللجنة ان الرئيس كنيدي اغتيل نتيجة لمؤامرة. وقد وافق على هذه النتيجة 75% من الخبراء في قضايا الاغتيال السياسي، و80% من الرأي العام الامريكي.. وقبل هذه النتيجة بعشرين عاما (وهي نتيجة لم تحدد الفاعل الحقيقي ولم تسمه ايضا) قبل هذه النتيجة بعشرين عاما قال روبرت كنيدي ـ شقيق الرئيس المغدور ـ: «اذا صح ان اغتيال الرئيس جون كنيدي قد كان مؤامرة، وان حكومة الولايات المتحدة تركت المجرمين خوفا او عجزا او تواطؤا يفرون بجريمتهم ـ فان القتلة المتآمرين سيغيرون مجرى التاريخ السياسي الامريكي كما يشاؤون».

وحين تذكر المؤامرات، تذكر ـ فورا ـ (السياسة الفاسدة)، فالتآمر صنعتها، والانحطاط الاخلاقي حرفتها، والتجرد من كل احساس وطني، ومن كل قيمة انسانية منهجها الدائم.

3 ـ النموذج الثالث من نماذج (النتائج المظلمة القاصمة) لـ(السياسة الفاسدة): ما جرى ويجري في لبنان (وهو موضع الشاهد الرئيسي في هذا المقال، وإن كان هذا لا يعني ان النماذج الاخرى هامشية او ثانوية).

منذ اغتيال رفيق الحريري في فبراير الماضي، والى اغتيال جبران تويني في الاسبوع المنصرم: ظل لبنان يفور بحياة سياسية، ويمور بطرح سياسي: حجب الحقيقة، وأبعدها عن الاعين في جرائم الاغتيالات السياسية الهمجية المتوحشة.. وحماية للقضية من الألاعيب السياسية قلنا ـ غداة اغتيال الحريري او اغتيال مستقبل لبنان ـ: «كلنا لدينا علامات استفهام كبيرة ولكن المسؤولية توجب علينا ان نكبت كل نزوع الى الافصاح حتى يبلغ التحقيق مبلغه. ولسنا ندافع عن احد بلا دليل. وانما الاصل ـ في الدين والقانون ـ هو (البراءة). ولو قال لنا احد: ان الموساد هو الذي اقترف الجريمة لطالبنا القائل بالدليل، او لطلبنا منه التريث حتى تستبين نتائج التحقيق الذي يتعين ان يذهب في كل اتجاه، ويستقرئ المظان كافة. ان رجلا كبيرا مثل الحريري: حرام.. حرام. حرام ان يذهب دمه الكريم هدرا. ولو حدث ذلك لصب الحزن على الجميع، ولباء لبنان والعرب والمسلمون والبشرية كلها بما يحط من قدر الانسان، ومن كل قيمة شريفة، لان البشرية كلها تكون عندئذ قد اشتركت في اغتيال الحريري بتقصيرها في التحقيق، وبترك الجناة المجرمين بلا حساب، ولا عقاب.. وفي بيان اسرة الحريري: دعوة الى المجتمعيْن العربي والدولي للتعاون في التحقيق. وهذه رغبة ينبغي الاستجابة لها من خلال ضمانات قوية تحمي التحقيق ـ على الصعيد نفسه ـ من التلاعب والتحريف».

ويبدو ان ما خشيناه قد وقع ـ على المستوى الدولي ـ فليس يستطيع ذو عقل وضمير، وحريص على سيادة القانون ونزاهة القضاء: ان يجرد تقارير ميليس من (الالغام السياسية)، او ـ على الاقل ـ من (الفجوات) التي تستغلها (السياسة الفاسدة) وتوظفها في تطبيق أجندات تدمر لبنان وسوريا معا، وبضربة واحدة.. ولسنا نرى للغرب ـ اوربا وامريكا ـ مصلحة موضوعية في خراب لبنان وسوريا. ولكن من المؤكد ان لاسرائيل مصلحة كبرى في هذا الخراب، فهو خراب يقود ـ في تقدير قادة اسرائيل ـ الى تحقيق بنود حيوية في الأجندة الاستراتيجية الاسرائيلية، بنود مثل: (تنظيف!!) دمشق من القيادات الفلسطينية.. وتجريد حزب الله من سلاحه.. والصيرورة الى توطين لاجئين فلسطينيين في لبنان (ازاحة العبء عن اسرائيل بترحيل الازمة الى لبنان).. واخضاع سوريا حتى تسوي قضية الجولان بما تهوى اسرائيل.. وان يرفرف العلم الاسرائيلي فوق سفارة اسرائيلية في بيروت.. الى آخر بنود الأجندة: المعلنة والسرية.. وهذه كلها ألغام سياسية دستها السياسة الفاسدة في قضية شريفة دسّاً يكاد يفسدها او يجعلها في المرتبة الثالثة او السابعة.. أليس صحيحا ـ بعد هذا كله ـ ان نقول: ان السياسة الفاسدة ما دخلت في شيء إلا أفسدته.

والحل هو ـ بالنسبة للبنان: ـ استنقاذ ملف التحقيق في اغتيال الحريري من اوكار السياسة الفاسدة ودفعه في طريق قضائي جديد: أوثق وأنزه. ولعل تنحي ميليس ومجيء شخص جديد مكانه يكون فرصة لهذا الاستنقاذ الضروري: من النواحي القانونية والقضائية والاخلاقية.. حقا نحن متأهبون لنكر على الفاعلين بما يكرهون: عربا او غير عرب. فأعينونا بالدليل والبرهان.