قراءة «هادئة» لنتائج الانتخابات المصرية

TT

تراجع المعارضة العلمانية الليبرالية، و«تقدم» الإخوان المسلمين (6 أضعاف مقاعدهم) أطلقا أصوات تحذير من معلقين عرب وأمريكيين يدعون، كذبا، فضلهم في «نشر» الديموقراطية في المنطقة، متجاهلين أو جاهلين بتاريخ التمثيل النيابي في مصر.

ما يريده الاصلاحيون المصريون، حكومة او معارضة وطنية، هو استعادة التعددية الحزبية البرلمانية التي ازدهرت قبل 45 عاما.

ما لا يريده المصريون (باستثناء الإخوان لغموض استراتيجيتهم)، هو «ديموقراطية» الرئيس جورج بوش والمحافظين الجدد.

بدأ المصريون الاقتراع في «المجلس الأعلى» عام 1824 في عهد محمد علي باشا، مؤسس مصر الحديثة كدولة تعتمد الضرائب للتمويل القومي والانتخابات للتمثيل النيابي. وتطور المجلس تدريجيا ليصل، في فترة الحرب العالمية الاولى، الى برلمان تعددي ليبرالي على نمط «وستمينستر» يسمح بتناوب السلطة حتى أجهضه الانقلاب العسكري عام 1952 (وإن أجريت انتخابات 1958 بين نواب مستقلين).

ادعى الإخوان أنهم «اكتفوا» بتقديم 150 مرشحا 39.5% من الاصوات (88 مقعدا) مقابل 5.5% من الاصوات للأحزاب العلمانية و11% للمستقلين (24 مقعدا).

ويُخطِئ المعلقون العرب، سواء بتصديقهم الهراء الأمريكي بمقارنة مصر بأمم لم تعرف التمثيل النيابي، او بقبول «بروباغندا» الإخوان ومغالطاتهم في الحساب، بالادعاء بأن مضاعفة عدد مرشحيهم في انتخابات مقبلة سيغير الخريطة السياسة المصرية الى قطبين: الوطني الديموقراطي بـ 50% من المقاعد، والإخوان 40%. وطبعا ينزعج الليبراليون العرب، خاصة في بلدان تعرضت لإرهاب تلاميذ الإخوان، أو شلت برلمانتها عن الحركة بكتلة اخوانية، من كلام كهذا. كما أن مصر كانت دائما ملجأ آمنا للفارين من ديكتاتوريات او تشدد مجتمعات، او من عنف ضدهم هنا وهناك. كما انجذب مثقفو العرب والمسلمين الى الحياة المصرية الليبرالية المتسامحة ومصادر العلم والفنون والثقافة والحضارة، التي قد تتعرض لخطر دمار الإخوان الشامل. والأجدر بهؤلاء المعلقين دراسة نتائج الانتخابات، بعقل بارد في إطار تاريخ الحياة النيابية المصرية.

فحتى اللحظة التي وأد فيها «العسكر» التعددية البرلمانية عام 1954، تناوبت أحزاب كالوطني (القديم)، والوفد، والأحرار الدستوريين، والسعديين... الحكم في مصر بالانتخابات البرلمانية، بينما شارك المستقلون والتيارات الأصغر الكبار أو اكتفوا بالمعارضة.

ومنذ تأسيسها عام 1928، لم تفز جماعة الإخوان المسلمين ولو بمقعد برلماني مرة واحدة. فالأمة المصرية المسالمة المتماسكة ترفض آيديولوجية الإخوان الدخيلة وإرهابها (كاغتيال قضاة وساسة وتفجير قاعات السينما والمسارح).

تأثرت تيارات، كمصر الفتاة (نموذجها الفاشية الايطالية) بأفكارهم، ودخل نفر من الإخوان البرلمان تحت مظلة هذا الفريق عام 1984 بعد تحولهم لحزب العمل.

ولا يعكس فوز الإخوان بـ 88 مقعدا رغبة الأمة المصرية الحقيقية. ويرى المفكر التقدمي ميلاد حنا أن النتائج ستدفع بالقوى الوطنية المصرية علمانية، وإسلامية ليبرالية، للتعاون معا من أجل درء خطر الفكر المستورد والتطرف عن مصر.

ذهبت أغلبية المقاعد (311) للحزب الوطني الديموقراطي الذي أسسه الزعيم الراحل أنور السادات، بعد أن أعاد التعددية الحزبية عام 1976عقب دعوة شعبية عامة لإنهاء نظام الحزب الواحد الستاليني المعروف بالاتحاد الاشتراكي. ودخلت معظم كوادر الأخير حزب الرئيس، من دون المرور بمرحلة «إعادة تأهيل ديموقراطي»، حاملة معها ممارسات وفساد الاتحاد الاشتراكي وسمعته السيئة.

ومع استمرار ممارسات حكم العسكر، كان من الطبيعي أن يفقد الحزب الوطني ثقة الناخب، خاصة في المناطق الريفية البعيدة عن عيون الصحافة، وارتبط اسمه بفضائح وفساد. واكب ذلك ضعف المعارضة العلمانية، وحرمها استمرار ممارسات الحقبة الناصرية، كالرقابة وتقليص حرية التعبير، من الاحتكاك بالجماهير.

وارتكبت حكومة «الوطني» خطأ فادحا في التسعينات بتقديم التنازلات للجماعات الارهابية المتأسلمة، بفرض رقابة على الفنون والتلفزيون والفكر تماشيا مع مطالبهم، بـ«أسلمة» المجتمع خشية اتهامها بمعاداة الدين، اثناء معركة الأمن مع الجماعات الارهابية (وخسارة قرابة 1000 نفس)، فمهد خطأ الحكومة الأرض للإخوان ورفع رموزهم ودعاتهم الى مستوى لم يكونوا يحلمون به.

وخلافا للاعتقاد الشائع، فإن جماعة الإخوان هي التي حظرت نفسها كحزب سياسي وليس الحكومة المصرية. فقرب نهاية رئاسة اللواء محمد نجيب الذي أراد عودة العسكر للثكنات عام 1954، اصطدم الكولونيل (البكباشي) عبد الناصر بالدستور ورجال القانون، بإلغائه الحياة البرلمانية، فانحاز الإخوان للعسكر ضد القوى الوطنية المصرية الديموقراطية.

دعم الإخوان إلغاء الأحزاب واجراءات القمع، (مثل شنق النقابيين خميس والبقري علنيا لقيادتهما لإضراب عمالي). وتقدم زعماؤهم بالتماس، بختم المحكمة الادارية، مؤكدين أنهم جماعة تبشير دينية، وليسوا حزبا سياسيا ولا يسعون لمناصب سياسية او للحكم. والوثيقة ضمن مسوغات قرارات المحكمة الدستورية العليا باستمرار حظر تحول الجماعة الى حزب سياسي. كما ان الدستور المصري يحظر تأسيس الأحزاب على اسس طائفية، او عرقية او دينية.

وبينما حرمت الاحزاب الوطنية المصرية من الممارسة منذ 1954، سمحت القوانين بحرية التعبير وممارسة الشعائر والدعوة والتجمع لأغراض غير سياسية، فاستغلها الإخوان في نشاطهم السياسي تحت شعار الدين، بينما مكنتهم مصادر تمويلهم الكبيرة، المتعددة المصادر، من تقديم دعم ورعاية صحية واجتماعية في مناطق الريف حيث يعطل فساد المسؤولين وصول ميزانية واصلاحات الدولة لمن يحتاجها. ومن المستبعد احتفاظ الإخوان بالمستوى الجماهيري الذي ارتفعوا اليه باختفاء الظروف التي سمحت بذلك مع اصلاح الحياة النيابية ومنح المعارضة العلمانية منابر مفتوحة. حصل الإخوان على 19% من مقاعد البرلمان، وهو رقم اقل مما توقعه زعماؤهم ( 25 ـ 30%) عند لقاءي معهم في يونيو. ونصف المصوتين للإخوان، حسب عينات استطلاع محلية، محتجون ضد الحزب الوطني، وفساد المسؤولين، او ضجروا من الوجوه القديمة التي لم تف بوعودها الانتخابية.

أقل من 24% من 32 مليون شخص مقيد بجداول الانتخاب اقترعوا، خرج مؤيدو الإخوان بنسبة تقارب 100% إما بإلحاح أئمة مساجد، او استجابة لهدايا عينية ونقدية، او لنشاط كوادر الإخوان وتوفير سبل المواصلات، والحقيقة أن مليونين من مجموع المصريين صوتوا للاخوان (نسبة7%). اما إذا صوت 50% مثلا في الانتخابات القادمة (ويتوقف الأمر على اداء الحزب الوطني واصلاحات الرئيس حسني مبارك) سيظل تأييد الإخوان 20% في مناطقهم القوية، و7% على المستوى القومي، بينما يتضاعف التصويت للآخرين.

وسيساعد تركيز الصحافة على اداء نوابهم البرلماني، الناخب المصري على كشف محاولة الإخوان الضحك على الناس بشعار «الاسلام هو الحل» الذي يعرض الايمان الروحي لخطر اختبارات دنيوية.

وكشفت دراسة للباحث مجدي خليل، عن اسئلة نواب الإخوان ومقترحاتهم عن غياب أي اقتراح يهدف لاصلاح الاقتصاد او تحسين احوال من يمثلونهم. ورصد الباحث العشرات من مطالب مصادرة كتب، ومنع أفلام ومسرحيات عروض ازياء وفرض رقابة فنية؛ ولو أخذ بها البرلمان لكانت دمرت السياحة وخربت الاقتصاد.

وطالبوا بإلغاء اتفاق السلام، ورفض الملياري دولار (معونة امريكية)، والانسحاب من مواثيق حقوق الإنسان، خاصة فيما يتعلق بحماية الطفل. وشغلوا البرلمان بمساءلة وزير العدل لتقديم مليونير من مؤيديهم للمحاكمة بسبب زواجه من 21 امرأة، واكثر من أربع في وقت واحد، الامر الذي يعتبر خرقا للقانون.

ويستغل الإخوان «تقدمهم» المؤقت غير الممثل في بروباغندا، بالمطالبة بتحويل الجماعة الى حزب سياسي. وناشد نائب زعيمهم محمد حبيب (11 ديسمبر) الكونغرس الأمريكي بإجراء حوار معهم، رغم ان معاهدات التعاون الأمريكية المصرية تلزم الطرفين باحترام قوانين البلدين.

والى جانب مخالفة القانون المصري، فإن تحول الجماعة الى حزب سياسي يخرق ابسط قواعد المنافسة الحرة، اذ مارسوا العمل الجماهيري لثلاثة عقود بينما حرمت الأحزاب الوطنية من فرصة مساوية، مثلما يقول دبلوماسيون غربيون كبار في القاهرة. ويحذر الدبلوماسيون انفسهم الأمريكيين والمنادين بفكرة «فلنترك الإخوان يجربون» من سذاجة الأسلوب وخطورته، فحزب هتلر النازي وصل إلى الحكم في المانيا بانتخابات مشروعة عام 1933، وبعد ذلك ألغى الانتخابات.

وأدبيات الإخوان تعتبر الديموقراطية كفرا وبدعة مستوردة، لكنها «قبقاب مؤقت يدخلون به الحمام»، مثلما قال أحد دعاتهم. ولذا يحذر الفاهمون من خطأ إضفاء الشرعية على اتصالات مع جماعة تقطر من يدها دماء أبرياء المسلمين منذ الثلاثينات، ويزهق تلاميذ فكرها الأرواح من جبال افغانستان الى نيويورك.