مصر: ضرورات السياسة ومحظورات الإخوان

TT

فارق وحيد ربما كان وراء انتقال أخبار الانتخابات البرلمانية المصرية من صفحات السياسة الى صفحات الحوادث، هو أن نسبة لا بأس بها من المصريين قد امتلكت الدافع هذه المرة لتلبية الدعوة للمشاركة في الانتخابات البرلمانية، وامتلكت معه الإصرار على التصويت مهما حاول البعض اعتراض طريقهم الى صناديق الاقتراع.

وراء اصرار الناخبين على الوصول الى صناديق الاقتراع هذه المرة أكثر من عامل ربما كان غائبا في الانتخابات السابقة، بينها التعديل الدستوري للمادة 76، الذي أتاح اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب من بين عدة مرشحين، والذي خاض بموجبه الرئيس المصري حسني مبارك الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فبموجب هذا التعديل، أدركت كافة القوى السياسية المصرية أن الطريق الى قصر الرئاسة يبدأ من البرلمان، حيث يتعين أن يكون مرشح الرئاسة المقبلة منتميا الى حزب يحظى بخمسة في المائة من مقاعد البرلمان، وبموجب هذا التعديل ذاته بدا لكثير من القوى والأحزاب والجماعات السياسية المصرية المعارضة لسيناريو »التوريث»، أن لا إمكانية للتصدي لهذا السيناريو، بغير الحصول على 23 مقعدا على الأقل في البرلمان المقبل، كما بدا للحزب الوطني الحاكم ولأمانة السياسات بالتحديد، أنه لا بديل عن تكريس هيمنة شبه مطلقة للحزب الوطني على البرلمان إذا أريد للانتخابات الرئاسية المقبلة أن تكون خالصة لوجه الحزب الوطني وأمانة السياسات.

وبسبب تأخر وصول كافة الأحزاب بما فيها الحزب الوطني الحاكم، الى هذا الاستنتاج، فقد عكست حركتها على المسرح الانتخابي «مزاجاً متوتراً» خيم على مجمل أحداث الانتخابات في كافة مراحلها من أول الترشيح وحتى إعلان النتائج، وبدا المشهد داخل الحزب الوطني الحاكم الذي هيمن على رموزه الاعتقاد بأن حصته من المقاعد مضمونة، فراحت تتصارع مبكرا على هوية من تمنحهم مقاعد البرلمان من بين أعضاء الحزب، حتى بدا في بعض المراحل وكأن ما وصف بالمجمع الانتخابي الذي يختار مرشحي الحزب لخوض الانتخابات، ليس سوى ساحة للصراع للتخلص من بعض الرموز المحسوبة على قيادات تقليدية حلا للبعض وصفها بـ«الحرس القديم»، بينما راحت أغلب أحزاب المعارضة تترنح تحت حركات «انشقاق داخلية» عصفت بفرص تنافسها على الفوز بحصة يعتد بها من مقاعد مجلس الشعب المصري، وحملتها على العكس من ذلك الى شواطئ الانهيار، وهو ما حدث في حزبي «الغد» ثم «الوفد» ومازال متوقعا بشدة في احزاب اليسار الشيوعي والناصري، بعد إخفاق مذل في الانتخابات الأخيرة أطاح بالزعامات التاريخية للحزبين (خالد محيي الدين وضياء الدين داوود).

فريق وحيد بدا أنه لم يضيع وقته منذ الانتخابات البرلمانية السابقة في عام 2000، هو جماعة الإخوان المسلمين «المحظورة»، التي لم تكتف فيما يبدو بقراءة خريطة التحولات الداخلية، لكنها استوعبت مبكرا خريطة التغييرات الدولية والإقليمية منذ انهيار جدار برلين في 9/11/1989 وحتى بدء الانتخابات البرلمانية المصرية في 9/11/2005، هذا الفريق الذي استعد مبكرا بقيد ناخبيه في جداول الانتخاب، والنزول إلى قواعده التي كان الوصول اليها ميسرا في المساجد، فيما عانت الأحزاب الرسمية (الشرعية) من عجزها عن الوصول الى قواعدها بسبب هشاشتها الذاتية وكذلك بسبب قيود قانون الطوارئ التي ألجمت قدرتها على الحركة، لكنها لم تفلح في شل حركة الجماعة «المحظورة» التي استثمرت غياب الحزب الحاكم عن الشارع فنزلت اليه عبر المستوصفات الخيرية، وفصول التقوية لطلاب المدارس الرسمية التي كف المعلمون عن القيام بدورهم الطبيعي في فصولها، وبالطبع في المساجد التي لاذ بها من تجاهلتهم خطط التنمية التي تبناها الحزب الوطني الحاكم.

ثلاثة عوامل مهمة استثمرتها الجماعة المحظورة إذن في بلوغ غايتها، أولها الدين الذي جسده شعارها الفضفاض «الإسلام هو الحل»، وبالطبع فلم يكن بوسع أي مسلم أن يقول إن الإسلام ليس حلاً، وإلا بات متهما في تدينه، وثانيها غياب الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة الأخرى عن الشارع، وثالثها وربما أهمها كونها جماعة «محظورة»، فالإخوان استفادوا وما زالوا يستفيدون من كونهم جماعة محظورة، وهم قد اعتادوا على العمل تحت تلك اللافتة التي حرصت بيانات وزارة الداخلية ووسائل الإعلام الرسمية على تأكيدها في كل وقت، بل إن ظهور الإخوان كحزب سياسي قد يمثل تحديا حقيقيا للجماعة سواء على مستوى الفكر، أو الحركة، أو الأداء السياسي، ولعل ذلك هو السبب الحقيقي وراء الإجابة المراوغة لقيادات الإخوان كلما سئلوا عن خططهم للتحول إلى حزب سياسي، فهم يؤكدون في كل لحظة أنهم لن يتقدموا بطلب إلى «لجنة أحزاب» لا يقرون بمشروعيتها، على حد قولهم، ولعله كذلك وراء إصرارهم على الترويج لفكرة الاحتفاظ بالجماعة ومرشدها بعيدا عن أي حزب قد يعتزمون تشكيله في المستقبل، فالجماعة بنظرهم أكثر رسوخا من الحزب، وهم قد راكموا خبراتهم فيها، واستثمروا وجودهم من خلال آليات عملها، واستراحوا لآلية صدور القرار بها.

وللإنصاف فان الحضور الكثيف لجماعة الإخوان، ربما كان وراء الارتفاع النسبي لمستوى الاقبال الجماهيري على التصويت في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ذلك الإقبال الذي ربما فاجأ الحزب الحاكم أو مرشحيه خلال المراحل الثلاث للانتخابات، ليترك بصماته فيما بعد على مجريات العملية الانتخابية، عنفاً وبلطجة لمنع الناخبين من تلبية نداء رئاسي رفيع المستوى بالتوجه الى صناديق الاقتراع واختيار من يمثلونهم، فقد فوجئ خصوم الإخوان من كافة القوى السياسية، بناخب من طراز فريد، على استعداد لمواجهة الأخطار، والتعرض للاذى البدني او المادي من أجل التصويت لمرشح قيل له إنه وحده الذي يملك الوصفة السحرية لمعالجة كافة مشاكله!!

أداء جماعة الإخوان المسلمين «المحظورة» في الانتخابات الأخيرة، في مواجهة الحزب الوطني الحاكم، لا يكشف عن قدرة الجماعة المحظورة على كسب الشارع فحسب، بل يبرهن في ضوء ما لقيه مرشحوها وناخبوها من عنت، عن بناء تنظيمي متكامل استطاع العمل عبر كافة قنوات الإعلام، والتعامل مع كافة المعوقات التي واجهها في الساحة الانتخابية، لكن أخطر ما نخشاه، ان تكون أعمال العنف التي شهدتها الانتخابات نتاج تواجد ميليشيات مدربة عملت لحساب هذا الفريق أو ذاك، وبرغم ما قاله بعض قادة الإخوان من أنهم تغلبوا على البلطجة بحث ناخبيهم على الاحتشاد بأعداد كبيرة أمام اللجان الانتخابية، إلا أن قدرة ناخبيهم على النفاذ الى لجان انتخابية كانت شبه محاصرة سواء بعناصر الأمن أو بمحترفي البلطجة لا تدع مجالا للشك في أنهم ربما استخدموا نفس الأدوات التي استخدمها مرشحو الحزب الحاكم.

نتائج الانتخابات تقطع باستمرار هيمنة الحزب الوطني الحاكم على أغلبية تتجاوز ثلثي مقاعد البرلمان، كما تقطع أيضا ببروز الإخوان كقطب ثان وحيد في مواجهة الحزب الوطني الذي لم يعتد على مدى ما يقرب من ثلاثين عاماً على العمل الى جانب معارضة كبيرة مؤثرة، وتقطع كذلك بغياب أو ضعف تأثير سائر الأحزاب المعارضة الأخرى التي جرى إضعافها على مدى سنوات، لكن التعامل الإيجابي مع تلك النتائج يقتضي الاقتداء بالمبدأ الفقهي القائل بأن «الضرورات تبيح المحظورات» وهو ما يعني فتح المجال أمام جماعة الإخوان «المحظورة» لتعمل في الضوء، وفق قواعد عامة تخضع لها كافة القوى والأحزاب السياسية المصرية، وإلا فإن الإصرار على تجاهل حقيقة وجود 88 نائبا للإخوان داخل مجلس الشعب المصري لن يقود الى تغييب الجماعة سياسيا، ولا الى تحسين فرص الحزب الحاكم في التعامل معها وفق مقتضيات الحظر القانوني، ولا بديل أمام الحزب الوطني الحاكم وسائر الأحزاب والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني المصري، سوى تطوير آليات العمل السياسي، وتهيئة المناخ عبر إصلاحات دستورية تضمن معظمها البرنامج الانتخابي للرئيس المصري حسني مبارك، لتفعيل كافة مؤسسات المجتمع، ورفع الحظر عن كافة القوى الفاعلة فيه..الإخوان غادروا بفوزهم حظيرة الحظر لكنهم لم يدخلوا بعد حظيرة الشرعية التي يؤثرون العمل بعيداً عن سقفها.