الناصرية .. إلى أين؟

TT

أشرنا في مقال سابق إلى ما كشفت عنه الانتخابات المصرية الأخيرة من ضعف وتراجع التيار الليبرالي المصري العريق لصالح جماعة الإخوان المسلمين التي انتزعت ثلث مقاعد البرلمان المصري الجديد.

بيد أن الظاهرة الأخرى البارزة للعيان هي تراجع التيار الناصري الذي كرسه رمزيا سقوط رئيس الحزب ضياء الدين داود أحد الوجوه التاريخية لهذا التيار كما هو معروف.

وقد كان الاعتقاد قائما أن الاتجاه الناصري لم يفتأ يتعزز شعبيا في السنوات الأخيرة، ليس في مصر وحدها، وإنما في بقية البلدان العربية، بما فيها الأقصى جغرافيا كموريتانيا واليمن حيث يوجد حزبان ناصريان معترف بهما وممثلان في البرلمان.

وقد جسدت الناصرية الجديدة وجوه شابة متألقة، من بينها المحامي المصري البارز حمدين صباحي الذي قاد في الأعوام الأخيرة حركة مراجعة وتجديد داخل الحزب الناصري أفضت إلى اصطدامه بالحرس القديم المتحكم في الحزب قبل انفصاله عنه.

بيد أن الانتخابات الأخيرة أثبتت أن هذا التيار الذي له امتدادات واسعة في الحقل السياسي والثقافي، غير مؤهل للتشكل في صيغة حزبية مؤسسية ناجعة..

صحيح أن اسم عبد الناصر قد يكون الأوفر زخما اليوم من بين كل الزعامات العربية المعاصرة، بيد أن تركته السياسية غير قابلة للاستثمار في عملية التعبئة الحزبية، كما أثبتت التجربة المصرية الأخيرة، بل إن هذه التركة أصبحت في الحقيقة نمطا من التراث المشترك للطبقة السياسية المصرية، بما فيها النظام الحاكم الذي لا يزال يستند لشرعية ثورة 23 يوليو حتى لو اختلف عنها في الخيارات الاستراتيجية والسياسات العامة.

أذكر أن أحد الشخصيات القريبة جدا من الرئيس مبارك قال لي عندما سألته عن سبب تراجع الناصرية في الشارع السياسي المصري أن أقرب الناس لعبد الناصر هي الوجوه التي تدير حاليا الحكم في مصر، من حيث كونها نشأت وتكونت سياسيا في مطبخ الثورة، معددا الأمثلة على رأيه، بذكر المواقع التي كانوا يحتلونها في الخلايا والتنظيمات الشعبية أيام العهد الناصري.

وبالنسبة لهذا التصور لم تكن اللحظة الساداتية (بامتداداتها الراهنة) لحظة قطيعة مع التجربة الناصرية، وإنما هي استمرارية طبيعية لها بحسب موازين القوى المتغيرة وتحولات الوضع الداخلي الموضوعية وتطورات الوضع الدولي.

صحيح أن تفنيد هذا الرأي ليس بالصعب، بيد أنه يعكس حالة فكرية وسياسية قائمة، قوامها الإجماع الواسع حول التشبث برمزية التجربة الناصرية والتباين الواسع في ضبط مدلولاتها والتقيد عمليا بخياراتها الفكرية والمجتمعية في سياقها التاريخي المعروف.

والخلاف هنا واضح بين هذه التجربة والتجربة القومية الأخرى المماثلة لها أي التقليد البعثي الذي تزامن تقريبا معها.

ذلك أن حزب البعث الذي اتخذ منذ نشأته طابعا مؤسسيا شديد التنظيم والصرامة وإن ارتبط بزعامات فكرية وسياسية معروفة (أبرزها قائده المؤسس ميشال عفلق) إلا أنه لم يتمكن من التحول إلى تيار شعبي حقيقي، ولم يستطع ممارسة أي تأثير خارج النطاق الحزبي الضيق، كما أن وجوهه القيادية لم تصل إلى مركز السلطة، وإن استغلت في عملية التنافس والصراع القائمة بين جناحي الحزب الحاكم في العراق وسوريا.

ومع أن الايديولوجيا البعثية كانت أكثر رصانة وأقوى إعدادا فكريا من الفكر الناصري الذي لم يكن يتجاوز ثلاث وثائق مرجعية تعبر عن لحظات التحول في التجربة الناصرية، إلا أنها لم تترك أثرا فاعلا في المناخ الفكري العربي، باستثناء الأدبيات المهرجانية ونشريات الدعاية والتعبئة.

ولذا يمكن القول إن الزخم الناصري يعود لعوامل ثلاثة هي:

* صورة البطل المقاوم الذي وقف ضد الاستعمار والصهيونية، وإن تعرض للهزيمة إلا أنه ظل ثابتا على خطه التحرري الوطني.

* صورة القائد الشعبي القريب من الناس، الذي حارب التفاوت والطبقية والاستغلال، وفتح المدارس والمستشفيات، وألغى الألقاب والامتيازات الموروثة.

* صورة قائد الأمة، الساعي لتوحيدها، وجمعها على كلمة الكرامة والشعور بالاعتزاز بالذات.

وما نستنتجه من هذا التحليل المقتضب هو أن الزخم الناصري هو أساسا صورة رمزية أكثر من كونها تجربة سياسية. فهذا المقوم الرمزي هو الذي يبرر كل أشكال القصور في الأداء السياسي بما فيها أبرز تجلياته أي هزيمة 1967 وأثرها المأساوي على الأوضاع العربية.

بيد أن هذه الصورة على بهائها غير قابلة للاستثمار حزبيا، كما أثبتت التجربة المصرية بل تعكس في الواقع شعور الإحباط السائد راهنا من واقع الهزائم والمآسي العربية المتتالية، والحاجة النفسية المتجددة إلى زعيم يقود الأمة ويحقق لها مطامحها في التوحد والاستقلالية والعدالة الاجتماعية.

إن هذا الوهم الذي قاد اتجاهات شعبية عريضة في الشارع العربي إلى الوقوف مع صدام حسين في حروبه الدنكشوتية، وإن كانت الخشية اليوم قائمة من أن يحوله غباء وتهور إدارة الاحتلال إلى الموقع الرمزي إياه.

وحسب عبارة الكاتب والصحفي الفرنسي جان لاكوتير الذي كتب كتابا رائعا عن جمال عبد الناصر، أن مفارقة التعامل العربي مع عبد الناصر هو أن الشارع أحبه في هزيمته وموته أكثر مما أحبه منتصرا وحيا.

ومهما كان تقدير الجانب الإنساني في الظاهرة إلا أن التحليل السياسي الموضوعي، يقتضي بغض النظر عن الاعتزاز بالتجربة النظر إليها في أخطائها وثغراتها وكبواتها، وعدم الرهان عليها في بناء مشروع فكري أو مجتمعي مستقبلي.

وحاصل الأمر، أن الناصرية انحسرت خطا سياسيا وفكريا، وإن تحولت إلى تركة رمزية بزخم كثيف، أصبح إرثا مشتركا للأمة.