سباق خفي بين واشنطن وبغداد

TT

هل يعقل أن تنافس واشنطن بغداد على «بضاعة» تنادي بتصديرها لها منذ أربع سنوات على الأقل؟

بانتظار ما ستؤول إليه الانتخابات العراقية من ديمقراطية عملانية، تبدو واشنطن، حتى الآن، جادة في استعادة ديمقراطيتها المترنحة تحت ضربات إرهابيي 11 سبتمبر (ايلول). وبالفعل، بدد مجلس الشيوخ الأميركي، بمعارضته الجريئة لتمديد العمل بالقانون المسمى Patriot Act (باتريوت آكت)، توجس العديد من المراقبين الأميركيين والأوروبيين، من أن يكون هذا القانون ـ الذي أقر في أعقاب اعتداءات 11 سبتمبر ـ أحد العوارض الأولية لإصابة الولايات المتحدة بعدوى ذلك المرض «العالمثالثي» الخبيث: تسلط النظام على حقوق الفرد.

بالنسبة للعديد من المراقبين بدا قانون «باتريوت آكت»، الذي فرض قيودا غير مسبوقة على الحريات العامة في الولايات المتحدة، وكأنه بداية انتكاسة الديمقراطية الأميركية في أول مواجهة مباشرة تخوضها مع الارهاب الدولي، فالقانون أجاز للسلطات الأميركية المعنية التنصت على الاتصالات الهاتفية، وتنفيذ عمليات مداهمة سرية بدون إبلاغ القضاء، والاطلاع على البطاقات المكتبية والملفات الطبية والسجلات المدرسية وحتى الوثائق الخاصة لأي مؤسسة كانت، وأعطى مكتب التحقيقات الفيدرالي حق استدعاء من يشاء للتحقيق بدون أي اشراف من محكمة أميركية.

وتعززت المخاوف من تجاهل الإدارة الأميركية للقيم الديمقراطية في عهد «المحافظين الجدد» مع انكشاف أنباء تورط قواتها المسلحة، في العراق وافغانستان وغوانتانامو، بممارسات يندى لها جبين توماس جيفرسون و«الآباء المؤسسين» للديمقراطية الأميركية، بعد أكثر من قرنين على التسليم بمبادئها، فاستساغ العديد من المراقبين القول بأن التنظيمات الإرهابية التي تواجه الولايات المتحدة، «نجحت» في جر الديمقراطية الاولى في العالم إلى مستواها السياسي.

والمفارقة اللافتة ان يحدث كل ذلك وادارة الرئيس جورج بوش تحاضرالآخرين في الديمقراطية، آخذة على معظم دول الشرق الأوسط تبنيها لممارسات.. تنافسهم اليوم عليها.

ربما كان التضخيم الأميركي غير الواقعي لابعاد اعتداءات 11 سبتمبر، مسؤولا عن تضخيم اجراءات مواجهته، خصوصا ان 11 سبتمبر كان أول اعتداء مباشر على ارض الولايات المتحدة التي خاضت حربين عالميتين، من دون ان تتعرض أراضيها لقذيفة أجنبية واحدة.

ولكن، إذا كان رفض مجلس الشيوخ، تمديد قانون «باتريوت آكت» يعكس، الى مدى بعيد، تبدد أجواء الهواجس الأمنية التي اعقبت اعتداءات 11 سبتمبر2001، فهو يؤكد ايضا رجوح كفة المؤسسة التشريعية على المؤسسة التنفيذية التي ادارت دفة البلاد من طرف واحد تقريبا على مدى السنوات الاربع الماضية، وتصدت بنجاح لأية محاولة، أكانت من الجسم القضائي او التشريعي (في الآونة الاخيرة)، للتدخل في الصلاحيات الواسعة، التي تملكها في حربها على «الارهاب الدولي».

على ضوء هذه الخلفية، قد يجوز التفاؤل بعودة الواقعية الى القرار الأميركي الرسمي. وفي هذا السياق يصح إدراج اعتراف الرئيس بوش العلني بحالة التململ التي يعانيها المجتمع الاميركي حيال الوضع في العراق، وقراره القبول بحظر اساءة معاملة المعتقلين في السجون الأميركية أينما كانوا ـ رغم معارضة نائبه ديك تشيني لهذا الحظر ـ وتراجعه عن تهديده باستعمال حق النقض لرد تشريع حظي بتأييد واسع في داخل الكونغرس اقترحه لهذه الغاية السناتور جون ماكاين.

ربما كان الرئيس بوش مكرها، لا بطلا في خياراته الأخيرة، كون عودة الواقعية الى السلطة التنفيذية تزامنت مع عودة السلطة التشريعية، بقوة، الى تأكيد موقعها على ساحة القرار الأميركي وممارسة دورها بعيدا عن ضغوطات الهاجس الامني.

ولكن المكسبين اللذين سيجنيهما الرئيس بوش من «واقعيته» المستجدة حيال الرأي العام الاميركي قد يكونا:

اثباته أن الديمقراطية التي يحاضر بها في الخارج، ما زالت حية ترزق في الداخل.

وإفساحه المجال لعودة اللعبة الديمقراطية الى علاقة البيت الابيض بالكونغرس.. قبل عودتها المنتظرة الى بغداد.