(الهلوكوست).. بين أحمدي نجاد وتركي الفيصل.. أين الحقيقة؟

TT

قال الرئيس الايراني: احمدي نجاد: «ان محرقة اليهود خرافة لا اساس، واكذوبة كبرى».
وقال الامير تركي الفيصل: «ان المحرقة واقعة تاريخية لا يمكن انكارها»

والمقولتان متناقضتان: في المعنى واللفظ وصيغ التوكيد.

فهل من المعقول: ان تتناقض وجهات النظر ـ الى هذه الدرجة ـ في قضية واحدة هي (الهلوكوست)، او محرقة اليهود على يد النازي منذ ستين عاما؟

واين الحقيقة؟

لننظر.

حين يقع خلاف حول احداث تاريخية معينة، فان الذي يحسم الخلاف او يرفعه او يقلل من حدته هو (البحث العلمي التاريخي الموضوعي) الذي لا يُسبق بأحكام جاهزة، ولا اهواء حاجزة. ولذا يعكف الباحثون والمؤرخون على تمحيص الوقائع، واجتلاء الحقائق، ونقد الوثائق الخ.

ولقد اختلف باحثون وعلماء اوربيون في قضية (الهلوكوست) وهم يقومون بالتحقيق والتدقيق والتوثيق.. فمنهم من نفى المحرقة بتعميم يكاد يبلغ الاطلاق.. ومن القرائن التي استند اليها هذا الفريق النافي: المقارنة بين الارقام، اذ عمدوا الى احصاء اعداد اليهود في المانيا في الفترة الهتلرية الطاغية (1933 ـ 1945) وقالوا: ان عدد اليهود في هذه الفترة لم يزد على 3 ثلاثة ملايين يهودي. فكيف يمكن طرح رقم اعلى (6 ملايين احرقوا في المحرقة) من رقم ادنى (3 ملايين يهودي) هو مجموع القوم هناك، يضاف الى ذلك انه قد بقي من اليهود الالمان ملايين اخرى؟.. وقد استدلوا بالشك في صحة الارقام على الشك في القضية كلها.

اما المثبتون فقد قالوا: ان النازي احرق فعلا نحو ستة ملايين يهودي بوسائل عديدة منها (افران الغاز)، وقد جاء في الموسوعة البريطانية: ان عدد اليهود الذين ابادهم النازي بلغ خمسة ملايين وسبعمائة وخمسين الفا (مع احتمال الزيادة). وما بين القوسين عبارة نصت عليها هذه الموسوعة.

فأين الحقيقة بالضبط؟

الحقيقة النسبية هي: ان اصل المحرقة ثابت. فلقد جرت المحرقة في سياق عام، ومناخ سائد: لا ينفيها، بل يرجح وقوعها بقرائن عديدة.. نقرأ في تاريخ النازية وسلوكها الاجتماعي والسياسي: ان هتلر بعد ان تمكن من السلطة عام 1933، كان اول اعماله: القرار الذي عرف بـ(قرار القدرة)، وهو قرار يخول المستشار هتلر بأن يفعل ما يشاء. وبموجب هذا القرار: سحب هتلر المانيا من عصبة الامم، واجتث الاحزاب الاخرى، وسجن معظم زعمائها، واخضع الكنائس لارادته، وحين اعترض عليه الكاهن البروتستانتي: مارتن نيوملر، قُدم هذا الكاهن الى المحكمة بتهمة الخيانة العظمى، فحكمت المحكمة ببراءته. وهنالك صاح هتلر: «هذه آخر مرة تجد المحاكم الالمانية شخصا بريئا اعلنت انا انه مذنب».. وكان هتلر قد عطل الدستور، وامر فرق الصاعقة النازية بان تقوم بأكبر حملة عنف وارهاب في جميع انحاء المانيا.. وممن شملتهم حملة العنف والارهاب هذه: الشيوعيون حيث اعلن النازيون حربا حقيقية من اجل استئصال الماركسية والماركسيين، وركزوا حملتهم على اليهود بهدف استئصالهم من الوظائف والاعمال كافة. ومن هنا عمد النازيون الى طرد الوف اليهود من العلماء والاساتذة والمحامين والقضاة والاطباء والممرضات من وظائفهم، كما قاطعوا اصحاب الدكاكين اليهود، وطردوا العمال من المصانع، وجردوا اليهود من الجنسية الالمانية، ومنعوهم من الزواج بالالمان، ومنعوا اطفالهم من الذهاب الى المدارس.. والحق ان طغيان النازيين وهمجيتهم: لم يتقصرا على اليهود فحسب، بل انتظما اجناسا اخرى.. يقول اسرائيل شاحاك.. في كتابه: تاريخ اليهود: ضغط 3000 عام ـ: «كانت النازية تعتزم وتمارس ابادة اجناس اخرى غير اليهود. فلقد أبيد الغجر مثلما أبيد اليهود، وكانت ابادة السلافيين جارية بواسطة المذابح المنسقة لملايين المدنيين وأسرى الحرب».

في مثل هذا المناخ: لا يُستبعد ان يقترف النازي محرقة ضد اليهود، ولا سيما ان هتلر قد علل موقفه من اليهود بعلتين. الاولى هي: ان اليهود هم الذين جروا الولايات المتحدة ضد المانيا في الحرب العالمية الاولى، وانهم هم الذين كانوا وراء الكارثة الاقتصادية التي حاقت بألمانيا في اواخر عشرينات القرن العشرين. وعلى افتراض صحة استنتاجات هتلر، فان ذلك لا يسوغ ـ قط ـ ما قام به من اعمال فاجرة هجمية. اولا: ليس كل اليهود قد تآمروا ضد المانيا.. ومن الظلم البواح: ان يؤاخذ غير المتآمر بذنب المتآمر.. ثانيا: ان مما يقوض ميزان العدالة: ازالة الظلم: بظلم اشد منه، ولذلك قال الذي اقام السموات والارض على العدل ـ جل ثناؤه ـ : «ولا يجرمنكم شنآن قوم ان صدوكم عن المسجد الحرام ان تعتدوا». والمعنى: لا تحملكم عداوتكم او كراهيتكم لقوم: على ان تعتدوا عليهم، محطمين ـ بهذا الاعتداء ـ ميزان العدل والانصاف والرحمة في التعامل معهم.. ومما يندرج في سياق المناخ العام ـ الذي أزّ النازيين ازا على مختلف الجرائم ـ : تلك الفلسفة الدموية المجنونة العامة التي طبعت الحياة الالمانية بطابعها، وصاغت عقول الشبيبة بالعنف والدم.. مثلا، يقول الزعيم الالماني: هرمان جورنج: «ان الالماني الحقيقي يفكر بدمه» أي من الاصالة الالمانية: ان تكون حركة التفكير دموية!!.

نخلص من هذا المحور الى ان (المحرقة) وقعت فعلا، وهي حقيقة ينبغي ان تفهم في ظل حقيقة اخرى وهي: ان مبالغات هائلة: تاريخية وسياسية واعلامية قد اكتنفت قضية المحرقة، اذ اختلط فيها الخيال والدس بالاحداث والوقائع. وهذا ليس من مصلحة اصحاب القضية بمقتضى المقياس العقلي. فالمبالغة مقترنة او متبوعة ـ دوما ـ بضدها، أي بالشك في الحقيقة نفسها.. وليس هناك ضرورة لان يكون الرقم 6 ستة ملايين لاثبات الظلم الذي وقع على اليهود من كل جهة، ولاثبات جرائم النازي من جهة اخرى. فحرق انسان واحد جريمة همجية وخسيسة ليس ضد اليهود فقط، وانما هي ضد الاسرة الانسانية كلها. فمن احرق انسانا واحدا فكأنما احرق الناس جميعا.

وبالفراغ من المحور الاول: ننتقل الى المحور الثاني من المقال وهو (الاستغلال غير الاخلاقي)، والابتزاز السياسي، والتوظيف العنصري لقضية (الهلوكوست).

لا يلام قوم على ان يتذكروا ـ وأيذكّروا ـ بما حل بهم من ضيم وظلم ومأساة، فليس عدلا ولا عقلا ولا فضيلة: ان يطالب شعب او امة بتعطيل (ذاكرته) او محوها.

وانما ينصب اللوم على الزوائد والمبالغات والمزايدات والتوظيفات السيئة والظالمة لما جرى:

1 ـ فالخطيئة هي تحويل المأساة (التي كان سببها دافعا عنصرا آريا) الى (عنصرية جديدة) ملفوفة في ثياب (معاداة السامية).. فبحجة معاداة السامية: تشن حملات صهيونية ضارية ضد كل حر في العالم، ينتقد تجاوزات الصهيونية، واخطاء اسرائيل، وهي حملات مبنية على مسلمة خاطئة: مسلّمة: ان هناك جنسا بشريا معينا يتمتع ـ وحده ـ بصفة (القداسة) او العصمة.. وهل كانت دعوى هتلر العنصري الآري الا مثل هذه الدعوى العنصرية السامية؟!

2 ـ والخطيئة هي (صَهْيَنة العالم)، بمعنى انه يجب على العالم كله ان ينظر الى السياسة والتاريخ، وكل شيء بـ(عيون صهيونية).. اما من كانت له عينان غير صهيونيتين: ليم وقرع واتهم وشوه، وكأن الأصل في البشرية كلها هو (العمى) او (العدسة الصهيونية). وليس هناك (خيار فيسولوجي) آخر للعين غير هذين الخيارين (جبريين)!!.

مثلا يقول: دوغلاس ريد ـ في كتابه: جدل حول صهيون ـ : «قدمت الصهيونية نفسها كما لو ان امريكا بالاخص مستعمرة لها، وقد تلاءمت السياسة الامريكية مع هذه الفكرة، فأصدرت القوانين التي تحرم الزواج المختلط (بين العرب واليهود)، ولا تختلف هذه القوانين عن قوانين (نورمبرج النازية).

3 ـ والخطيئة هي: انه في سبيل صهينة العالم: حصل السعي الصهيوني لأجل (منع البحث العلمي في مسألة الهلوكوست): فحرام على باحثي العالم ومفكريه ومؤرخيه ـ من كل جنس ـ: ان تتطرق بحوثهم ودراساتهم الى الهلوكوست.. اليس صهينة للعالم، بل أليس جنونا من الجنون: ان تقرر الامم المتحدة هذا القرار: «ترفض الامم المتحدة أي انكار كلي او جزئي لوقوع محرقة اليهود».. ان العقائد المسيحية نفسها لم تظفر بهذه القداسة. فقد تعرضت عقيدة الصلب ـ مثلا ـ ولا تزال تتعرض للنقد والتمحيص، والنفي والاثبات على يد علماء وباحثين ومؤرخين مسيحيين.. ثم ان هذا الخطر الغريب: عودة صريحة حقيقية مقننة الى (محاكم التفتيش). ذلك ان المقتضى العملي لهذا القرار هو: تتبع بحوث العلماء حتى اذا ضبطوا متلبسين بالبحث في الهلوكوست: صودرت بحوثهم، وشوهت سيرتهم وشخصياتهم.. قد يخطئ الباحث.. نعم.. والفرصة في هذه الحال متاحة للعلماء اليهود: للرد والردع والدحض بالدليل والوثيقة والبرهان.. وهذه هي قمة الحضارة.

4 ـ والخطيئة هي: ان ينقلب المظلوم الى ظالم: يقلد طاغيه في الظلم والاضطهاد والقهر والاذلال. فالذين ملأوا العالم اعلاما ضد النازي الظلوم الذي فَجَر بهم هم هم أنفسهم الذين يمارسون الظلم والعدوان على الفلسطينيين.. من دير ياسين الى جنين: اقترف غلاة اليهود والصهيونية: اعمال سحق وتعذيب وابادة ضد الشعب الفلسطيني. وكما ان النازي وهو يعذب اليهود ويقتلهم كان يستند الى (فلسفة)، فكذلك غلاة اليهود والصهيونية يستندون الى (فلسفة) وهم يضطهدون الشعب الفلسطيني.. يقول كتيب نشرته قيادة المنطقة الوسطى في الجيش الاسرائيلي: «عندما تصادف قواتنا مدنيين خلال الحرب، او اثناء عملية مطاردة فيجب قتلهم، اذ ينبغي عدم الثقة بالعربي في أي ظرف من الظروف حتى وان اعطى انطباعا بانه متمدن. ففي الحرب يسمح لقواتنا بقتل المدنيين الطيبين، أي المدنيين الذين يبدون طيبين في الظاهر».

وبالمحورين ينجلي الموقف، وتتضح الحقائق: حقيقة ان المحرقة واقعة تاريخية.. وحقيقة انه قد احاط بهذه الحقيقة كم غير محدود من الخيال والدس والتزيد والمبالغة.. وحقيقة الاستغلال والابتزاز والتوظيف العنصري الكريه جدا لتلك المأساة الانسانية.