المكافأة المسمومة للعراقيين

TT

من بين كل الصفات الحميدة التي اطلقت على عملية الاقتراع التي جرت في العراق (وخارجه للجاليات المهاجرة رغما عنها والمهجّرة عنوة) منتصف هذا الشهر، فان صفة «الشفافية» تنطبق عليها تماما من دون أي شك او ريبة.

بل ان الشفافية في هذه العملية بلغت مبلغا لا نظير ولا مثيل له، حتى ان عناصر «الائتلاف العراقي الموحد» المعلنين في اجهزة الشرطة والأمن والميليشيات والعصابات ودوائر الحكومة العليا والدنيا لم يتهيبوا من ممارسة الترهيب والتحريض والاعتداء والقتل وشراء الذمم علنا على رؤوس الاشهاد في يوم الانتخابات وقبله. كما ان المستترين من عناصر «الائتلاف» المندسين في مكاتب مفوضية الانتخابات وفروعها في الداخل والخارج لم يتحرجوا من تسهيل التزوير والتستر على المزورين والتدليس على الخروقات المتعمدة لقوانين المفوضية وأنظمتها وقواعد العمل فيها.

كل شيء كان يجري تحت انظار الناخبين والمراقبين وموظفي المفوضية، ولم يجد عناصر «الائتلاف» المعلنون والمستترون انفسهم مضطرين حتى الى التزام وصايا ملاليهم لهم بالتمسك بمبدأ التقيّة واستمرأوا الانفلات في الدوس على أبسط مبادئ الديمقراطية.

الارهابي ابو مصعب الزرقاوي توعد الناخبين العراقيين بـ«غزوة مباركة جديدة» ان هم ذهبوا الى مراكز التصويت. وقد تحدّاه العراقيون بالاقبال الكثيف على الاقتراع بصدور مكشوفة وظهور غير محمية. وكان من الواجب الوطني والاخلاقي والشرعي ان يُكافأ ايثار هذه الجموع بعملية انتخابية ليست فقط شفافة (في ممارساتها السلبية) وانما حرة ونزيهة ايضا.

مكافأة «الائتلاف» كانت باطلاق العصابات المسلحة في الشوارع والخلايا السرية في مكاتب مفوضية الانتخابات وفروعها، مثلما كانت مكافأة حكومة «الائتلاف» لناخبيه الحقيقيين والمُزورين برفع اسعار المشتقات النفطية فور انتهاء عملية التصويت.

العراقيون مصعوقون بهذه «المكافأة» الانتخابية، وقد تلقيت امس عبر البريد الإلكتروني مذكرة وقع عليها اكثر من 300 من المثقفين والاختصاصيين العراقيين في بداية حملتهم للاحتجاج على ما جرى، عبروا فيها عن «الألم يعتصر قلوبنا جراء ما سبق ورافق هذا اليوم التاريخي من انتهاكات لحق المواطنين في انتخاب من يريدون حسب قناعاتهم وضمائرهم...(ب) الخرق الفاضح لتعليمات المفوضية العليا للانتخابات بشأن الدعاية الانتخابية، والسعي لشراء الاصوات والذمم وإفساد الناس بالمال، وتسعير التعصب والنعرة الطائفية المقيتة حتى من فوق منابر دور العبادة ومآذنها، واستخدام أشكال الضغوط حتى التهديد لمن يصر على ممارسة حقه المشروع. أما اشكال ووقائع التزوير فلا تحصى ولا تعد».

أما «مؤتمر الرفض للانتخابات المزورة» الذي عقده يومي الاربعاء والخميس 35 ائتلافا وكيانا سياسيا تشكل الغالبية الساحقة من الكيانات التي خاضت الانتخابات، فقد لاحظ عن حق ان العراقيين علّقوا على هذه الانتخابات «الكثير من الامل والكبير من العمل من أجل فتح باب جديد ينقلنا جميعاً الى حالة عراقية جديدة تسودها الثقة وتحدوها الدعة ويعلوها الأمن والامان»، فيما يلوح الان شبح «ديمقراطية دكتاتورية لا تختلف كثيراً عن النظم السلطوية، ان لم تكن أكثر إيذاء وأعمق تمزيقاً لمجتمعنا ولشعبنا».

«الائتلاف العراقي الموحد» ارتكب خطيئة بسعيه لوأد جنين الديمقراطية وهو لم يزل في الرحم غير واع ان هذا لن يساعده هو على الوصول الى السلطة ولا على الاحتفاظ بها اذا ما وصل اليها في غفلة من الزمن والناس مثلما حصل لصدام حسين الذي لا يبدو ان «الائتلاف» يعتبر بمصيره.

هذه الخطيئة اذا ما مُررت لن تكتب للعراق السلامة، فنهر آخر للدم سيجري الى جانب النهر الحالي، وهذا الخراب الشامل القائم منذ ايام صدام الطويلة سيغدو خرابين.

[email protected]