أساطير الأولين

TT

حكاوي الجدات قبل النوم مسلية ولها مفعولها السحري. فهي تريح الاطفال وتساهم في أن يغطوا في سبات عميق. وتمضي الأيام ويبتسم الاطفال حين النظر الى جداتهم وهم يتذكرون المبالغات والدراما التي كانت تضفيها الجدات على الحكاوي «لزوم التأثير والشغل»...

ما ينطبق على حكاوي قبل النوم ينطبق ايضا على «حكاوي» محمد حسنين هيكل. فهو بأسلوبه الرشيق وكلماته المنمقة ولونه البرونزي وسيجاره الكوبي المشتعل وحركات يده الكثيرة الممزوجة بأسلوب مسرحي راق أصبح «حكواتي» عصره. فبات يكتب ويحاضر ويظهر على شاشات التلفزيون مروِّجا لأسطورة ابتدعها وهي «التاريخ الموثق» آتيا بوثائق لا أحد يعلم مصدرها ولا مدى صحتها حتى بات يعرف بأنه «أستاذ يوثق مصادره»، وهي بطبيعة الحال مقولة مهمة تفيد في عملية

«التسويق والترويج» الشخصي المطلوب. ولكن هناك فارقا كبيرا بين «صراحة» الأمس وفصاحة اليوم، حيث أن الاساطير كانت تروج البارحة ويقف الجميع مذهولين منها ومن سلاستها وكأنها «بيان مبين»، ولكن سرعان ما يدركون اليوم أن من البيان لسحرا.

محمد حسنين هيكل لم يستطع أن يكون أمينا مع واقع عايشه وعاصره، فكيف يمكن تصديق تاريخ يسرده ويرويه، مهما كانت أهمية الوثائق التي يستعين بها ويستخدمها.

أسلوب السرد والتشويق والاثارة يصلح للتأليف والرواية وهو نهج يتبعه الروائيون العظام كنجيب محفوظ وأمين معلوف وماركيز وديكنز. أما التاريخ وكتابته فهذه مسألة أخرى بحاجة لعناصر مغايرة تماما. شخصيا أنا من جيل يدفع ثمن «صراحة» محمد حسنين هيكل والترويج الغوبلزي المكثف للنظريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كرست الطغيان والدكتاتورية والفساد والتفرقة والخوف والاستيلاء على السلطة والمال العام، ليس مصريا فحسب ولكن عربيا ايضا بعد أن كان هو شخصيا البوق التسويقي لهذا الفكر.

لقد وعد محمد حسنين هيكل جماهيره بالاعتزال وكتب مذكرة الوداع الشهيرة مؤخرا في ذلك الأمر ولكن يبدو أن إغراء «منبر من لا منبر له» كان مجزيا. في الغرب هناك مثل يصف أسرار الماضي، وهو «هيكل في الخزانة»، ويبدو أن الذاكرة العربية سيظل لديها «هيكلها» في الخزانة. والى أن يتم التعامل مع التاريخ والحاضر بدون هيكل وأشباهه سنظل في هذه المتاهات.

العالم العربي يعيش حالة خطيرة غير مسبوقة لا تتحمل خطابات وشعارات معبئة بالهواء الساخن التي تكون غايتها اثارة الشارع وكسب بعض الهتافات الفارغة بل هو في حاجة ماسة لصراحة يصاحبها صدق وأمانة، وفرق كبير بين هذا وحكاوي قبل النوم التي تكون اشبه بأساطير الأولين.

[email protected]