لكي نجنِّب المشرق العربي تفجيرات أوسع

TT

الدنيا عيد..

عيد الأضحى بعد أسبوعين. عيد رأس السنة الميلادية بعد خمسة أيام. عيد الميلاد مضى عليه يومان.

العيد ذكرى. هو مناسبة للتذكر. فرصة لمراجعة الذات. برهة سانحة لمناجاة روحية للتخلص من شوائب وأدران الحياة المادية. في العيد تصفو النفس، تتسامى، تصفح وتتسامح، تعفو وتغفر..

لكن بأية حال عدت يا عيد؟!

هل نحن العرب على هذا المستوى السامي من الود والحب ونقاء النفس؟ لا أظن. لم يعرف العرب صفاء الراحة منذ جاهلية داحس والغبراء إلى جاهليتهم الراهنة. ربما لأن شعورهم بأنهم أمة ظل وما زال ناقصا ومبهما غامضاً. كانوا قبائل متقاتلة. أصبحوا دولا وطوائف متناحرة حينا، متقاتلة حينا، متهادنة حينا. لولا هذه اللغة العبقرية الجميلة لضاعت أيضا وحدة الثقافة التي تغالب السقف المفروض على العقل، وتتحايل على قيود الرقابة، وعلى حدود التباهي باستقلال مزعوم، والمفاخرة بسيادة كاذبة.

كان العرب إذا احتربوا سالت دماؤهم. كانوا إذا تذكروا القربى سالت دموعهم. لا دموع اليوم، إنما دماء هنا ودماء هناك. يعلن الزرقاوي باسم الإسلام أن لا علاقة للسنة مع الشيعة إلا بالسيف والدم المهراق! ينسج صولاغ وزير الداخلية بيوت العنكبوت في الظلام لتعذيب المعتقلين السنة. يطالب الملا عبد العزيز الحكيم بلده العراق المفلس بأن يدفع مائة مليار دولار لايران، تعويضا عن حرب أشعلها صدام واستمر فيها الخميني ثماني سنوات.

كان الخلاف العربي البغيض فرصة، على الأقل، لمعرفة الحقيقة! كان المسؤول هنا والسياسي هناك يبلغ الصحافي، في السر والعلن، الأسرار والحقائق التي كانت مكنونة تحت براقع الاخوة ووهم التضأمن.

أين المعرفة والحقيقة والأسرار في ما نسمع ونرى اليوم من مبارزات فروسية بالتصريحات الفارغة، والافتتاحيات والمقالات المغموسة بسُمِّ الحقد والتحريض؟ تمنيت أن أقرأ تعليقا لكاتب عراقي يتفق مع كاتب عراقي آخر، لأعرف وجها واحداً لحقيقة ما يجري في العراق.

الأدهى أن الخصومات الرسمية والسياسية داخل البلد الواحد، أو بين هذا البلد وذاك، باتت تجيِّش الشارع والمجتمع والتلفزيون والمثقفين والصحافيين والإعلاميين، في تظاهرات ومسيرات وشعارات وندوات وخيمات وبرامج، ضد ما يقابلها أيضا من ظواهر التجييش الشعبي والطائفي في البلد الشقيق الآخر. وهكذا، فالنزاع السياسي العارض والمؤقت يرسي، لأول مرة، القاعدة لتباعد وتباغض تاريخيين بين مجتمعات شقيقة تجمعها وحدة اللغة والثقافة، ووشائج القربى والمصاهرة والتجارة والصلات والصداقات والمصالح المتبادلة.

نعيب على الجامعة العربية تقصيرها. عندما تحاول الجامعة، كمؤسسة رسمية تمثل الحد الأدنى من علاقة القربى القومية، التدخل بشخص أمينها العام عمرو موسى، للتخفيف من حدة أزمة ثنائيةٍ ما، ينبري له الساسة المحليون هنا وهناك بالاتهامات الظالمة والرفض المسبق لمهمته!

لماذا نصمم على تدويل الأزمات ونرفض التعريب؟! لماذا نستقبل الموفد الإيراني وغير الإيراني تلو الموفد الإيراني وغير الإيراني، ونرفض أمين الجامعة العربية؟ عمرو موسى ليس قاضيا. لن يتدخل في قضية قضائية أو قانونية. العدل يجب أن يأخذ مجراه، انما هو يسعى لوضع حد للاشتباك السياسي والإعلامي المؤسف. هل نرفض الجامعة العربية اذا نجحت في إقناع سورية بالكف عن التدخل في لبنان؟ هل نعلن الحرب على الجامعة العربية، إذا نجحت مع الجهد السعودي والمصري، لانتزاع تعهد بعدم تصفية الخلاف الثنائي بسفك الدماء في الساحة اللبنانية؟

نعم، ربما كانت لعمرو موسى حماسته الديبلوماسية الزائدة، بل أخطأ عمرو موسى عندما حال دون بحث عرض الراحل الشيخ زايد على قمة بيروت العربية، ترحيل صدام واستضافته لاجئا في رحاب دولة الإمارات. لكن عمرو موسى ليس موظفا إداريا. انه موظف سياسي يمثل إرادة 22 دولة عربية.

أعود لأناشد الرئيس بشار والدائرة المتحكمة معه بالقرار السياسي السوري، ترك لبنان واللبنانيين يغزلون وحدهم اتفاقهم وخلافهم. ناشدته سابقا ضبط أجهزته الأمنية. وأطالبه اليوم، كعربي أولا وكسوري ثانيا، بوضع حد لهذه الهجمة الإعلامية الشعواء على بعض زعماء وساسة لبنان. التهدئة سوف تحل بالحوار السلمي كل المشاكل الثنائية، وستضمن لسورية تعهدا لبنانيا بأن لا يكون لبنان للتدويل مقرا أو ممرا لسورية.

أقول لجيل بشار إن سورية، بحكم فهمها العميق للسياسات العربية وبحكم إيمانها القومي، لم تعرف تجييشا وتجنيدا وتحريضا لشارعها الشعبي ضد أي بلد عربي آخر، حتى في ذروة صدام «نظام الانفصال» ونظام «البعث العفلقي» مع عبد الناصر في أوائل الستينات، كهذا التجييش الشعبي الحاصل اليوم ضد لبنان!

في المقابل، لا بد للزعامات اللبنانية التي أخفقت خلال الحرب الأهلية في تدويل لبنان، أن تدرك أن تجديد مسعى التدويل سيصطدم برفض لبناني قبل الرفض السوري. وباختصار كما قال نبيه بري مطمئنا ومصارحا السوريين واللبنانيين «إن لبنان يجب أن لا يُحكم من سورية، ويجب أن لا يُحكم ضد سورية».

الظواهر السلبية كثيرة. «حماس» في الداخل أكثر جنوحا لمهادنة اسرائيل، تطلعا الى الفوز بالانتخابات التشريعية، حتى ولو منعت اسرائيل أهل القدس من المشاركة في الاقتراع، فيما خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس «يفقع» تصريحا بالتهديد بإلغاء الهدنة مع اسرائيل، يمهد به لزيارته لطهران لتلقي البركة وغير البركة هناك!

تناقضات الازدواجية الإيرانية من الظواهر السلبية الخطيرة: إيران مع السلام علنا. وتشجع وتمول التنظيمات الجهادية واليسارية ضده سرا. إيران تقول علنا انها لا تصنع القنبلة النووية، وتمضي في مشروعها النووي سرا.

لعل الديبلوماسية العربية تتحرك لإقناع الغرب بتجريد منطقة ملتهبة كالشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل. وأذكِّر بأن اسرائيل عبأت صواريخها بقنابلها النووية عندما نزلت الدبابات السورية الى الجليل خلال حرب 1973. ومن يضمن أن لا تحمِّل إيران صواريخها في الخليج بقنابلها النووية «المنتظرة»؟ لا سيما انها استعملت سوية مع العراق الغاز السام، وقصفت بغداد بالصواريخ التي لم تكن، لحسن الحظ، محشوة بأسلحة الدمار الشامل.

أيضا، «الحزب الديني» بعد النجاح النسبي الذي حققه في الانتخابات المصرية يعلن أنه لا يمانع بإنشاء حزب طائفي للأقباط! هكذا، ليضفي نوعا من «المشروعية» على لونه الطائفي كحزب للمسلمين. وهكذا، تزحف الطائفية التي غزت المشرق العربي، لتلقي بظلالها الظلامية المخيفة على المجتمع المصري، ولتلغي تاريخا عريقا من التسامح الديني والتعاطف الوطني الذي يجمع بين المسلمين والأقباط.

في العراق، يثبت صدام تفوقه المسرحي على المحكمة التي تحاكمه. الغباء الأميركي هو الذي سمح لصدام بالسيطرة على مسرح محاكمة/مهزلة، قاضيها كردي، وقضيتها شيعية، والمتهمون فيها سنة. كان من الأفضل محاكمة صدام على جرائمه ضد الانسانية التي دفن فيها مليون عراقي، سنة وشيعة وكردا، حربا وسلما.

كم من ظواهر سلبية في هذا المشهد العربي الساخن! كم من ظواهر توحي بأن العالم العربي يتجه نحو أزمات وتفجيرات أوسع تلف بلهبها مجتمعاته المسالمة، ويكتوى بنارها جميع الذين يؤججونها، ويحسبون أنهم في منجاة منها.

عيد؟ بأية حال عدت يا عيد؟!

ليت بيدا دونها بيد، بين ما يُعَدُّ للعرب،

وما يُعِدُّ العرب للعرب.