الانقلاب على «الطائف» .. والحريري

TT

في وداع عام 2005 ... وبينما تواصل «مطحنة الموت» عملها في لبنان واثقةً من نجاح مقاصدها، يتأكد أكثر من أي وقت مضى الترابط العضوي بين «اتفاقات الوفاق الوطني في الطائف» ورفيق الحريري، الشخص والرمز والمشروع.

فما كان ممكناً القضاء على الطائف من دون القضاء على الحريري، وما كان متصوراً بقاء «وفاق» الطائف عندما يغيّب الحريري عن الساحة بالصورة التي غيّب بها.

في الأصل لم يكن هذا «الوفاق» إلا محطة توافق على الحد الأدنى.

كان اتفاقاً على رفض الممنوعات أكثر منه تأسيساً للجوامع الإيجابية المطلوبة لبناء وطن حقيقي... وترسيخاً لها. وثمة فارق ضخم بين التفاهم المرحلي على شروط هدنة توقف حرباً أهلية تولدت خلالها الأحقاد والعداوات وتداعت القناعات والمسلّمات، وبين خلق هويّة وطنية موحدة تنطوي على ثقافة سياسية جامعة وتصور واحد للمصير المشترك يقومان على التفسير المتسامح والمقبول للتاريخ.

بكلام آخر، كان «وفاق» الطائف في حد ذاته خطوة ضرورية لكنها غير كافية. ومن ثم كان مطلوباً السير به قدماً من حالة تصفية العداء العدمي الإلغائي والانتحاري إلى حالة من التوق ِإلى التلاقي والتعاون الصادق لتعويض ما فات الجميع من فرص. ولكن الحصيلة منذ اغتيال رينيه معوّض ـ أول رئيس لـ«لبنان ما بعد الطائف» ـ وضُم اغتياله إلى سلسلة الاغتيالات المسجلة «ضد مجهول»، تمثلت بقوة دفع اسلامية مزهوة بإنجاز المساواة والمشاركة، وسلبية مسيحية تدّعي سوء تطبيق الطائف إلى حد دفع المسيحيين إلى خانة المهمشين.

المسلمون اعتبروا أنهم أزاحوا عنهم شبح الغبن التاريخي، والمسيحيون رأوا أن الظروف الإقليمية والدولية خذلتهم، ولا سيما بعدما اطمأنت واشنطن إلى دور دمشق في حرب تحرير الكويت فأطلقت يدها في لبنان.

أما «دمشق حافظ الأسد» فتمكنت يومذاك، بفضل حسن قراءتها للمتغيرات الدولية، ليس فقط من تحييد واشنطن، بل التحول عند مسيحيي لبنان إلى الخصم والحكم. وهكذا فتحت أبوابها حتى لرموز 17 مايو (أيار) 1982 ـ إي المستفيدين من الاحتلال الإسرائيلي ـ منهم. وحقاً صار عدد من هؤلاء أصحاب كلمة وحظوة في العاصمة السورية، ويتضح اليوم تماماً كم كانت هذه الحظوة استثماراً مفيداً لهم ضد خصومهم المحليين في لبنان... وبالذات أولئك الذين قاتلوا ضد 17 مايو.

في هذه الأثناء غاب حافظ الأسد، وخلال فترة قصيرة ابتعد أو أبعد تدريجياً عدد من رجال عهده وسياساته، تاركين مواقعهم لعهد جديد له طريقته الخاصة في قراءة الأمور والتعامل مع الأعداء والأصدقاء ... و«المتعاملين» أيضاً.

ولا شك في أن العهد الجديد كان قد قرر سلفاً من هم الأصدقاء ومن هم الأعداء في لبنان، كما قرر أي لبنان يريد في المرحلة المقبلة وأي قيادات تصلح له. ومن يتذكرون حقبة 1982 ـ 1983 جيداً، استغربوا أن يستعيدها الرئيس بشار الأسد في خطابه الأخير بجامعة دمشق، ولكن بحقائق مقلوبة رأساً على عقب!!

أيضاً تثير استغراب البعض قراءة دمشق وحلفائها، ومن ربطوا انفسهم بها، في مسألة «التدويل» التي يقال إنها تهدف إلى تصفية حضورها في لبنان. ففي حين كانت ثمة جهات لبنانية تنشط فعلياً لبضع سنوات في دعم «قانون محاسبة سورية» داخل كواليس واشنطن، كان رفيق الحريري وبعض من تصفهم وسائل إلاعلام السورية اليوم بـ«الخونة» و«المتآمرين» و«اعداء سورية» يدافعون عن سورية في كل محفل دولي يقفون فيه. ومع ذلك، بقدرة قادر، تسابق رابطو أنفسهم بدمشق خلال الأشهر القليلة الماضية على تأييد ترشيح النائب العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، مع أنه القيادي المسيحي الأول الذي رفض علناً «وفاق الطائف»، والقيادي المسيحي الوحيد الذي دعم «قانون محاسبة سورية» بحضوره شخصياً جلسة استماع في الكونغرس، والقيادي المسيحي الأبرز الذي أيد صراحة قرار مجلس الأمن الدولي 1559 !!!

حتى زلزال اغتيال رفيق الحريري وما تلاه من تداعيات، كان السواد الأعظم من الشارع المسلم في لبنان، إن لم يكن كله، ضد أي بحث في ما يلي:

1- ترسيم الحدود بين لبنان وسورية.

2- تبادل السفراء بين لبنان وسورية.

3- التفكير بهوية لبنانية استقلالية استقلالاً كاملاً عن سورية.

هذا الوضع تغير، فقد زال الإجماع، وسقطت على الأقل عند نصف المسلمين هذه المحظورات. وزاد الوضع خطورة ما جرى خلال الأسبوعين الأخيرين، بل منذ خطاب الرئيس الأسد الذي اتهم فيه فؤاد السنيورة رئيس حكومة لبنان بأنه «عبد مأمور عند عبد مأمور». فالخطاب أربك الساحة الإسلامية والوطنية في لبنان من دون أن يقنع المترددين من اللبنانيين ببراءة دمشق من تعطيل التحقيق في جريمة اغتيال رفيق الحريري.

ولا شك أن سابقة انسحاب الوزراء الشيعة اعتراضاً على رد رئيس الحكومة دفاعاً عن نفسه لم تساعد على الحفاظ على أجواء الثقة المتبادلة. وبالتالي كان طبيعياً أن تصل الأمور إلى «الاعتكاف» بعد رفض الكتلة الشيعية مطالبة الحكومة بمحكمة ذات طابع دولي بعد وقوع جريمة جديدة هي اغتيال جبران التويني.

إن سُحُب الشك المطبقة على الساحة السنية ـ الشيعية في لبنان تدعو جدياً إلى القلق. وشخصياً أستبعد أن تساهم الدبلوماسية اللبقة وحدها في إزالة هذه السحب.

فكلما شددت الكتلة الشيعية على أنها حليفة لدمشق مهما كان الثمن سيعتبرها قطاع واسع من اللبنانيين من غير الشيعة «طابوراً خامساً» لدمشق وايران لا يبالي بمطالب الآخرين بمن فيهم مطلب كشف قتلة الحريري. ومهما حاول الآخرون من «الأكثرية» (الممنوعة من استخدام هذا المصطلح) طمأنة الكتلة الشيعية سيظل الشك قائماً عند الكتلة بأن مساعي واشنطن وباريس لتحجيم دمشق تبدأ لبنانياً من تحجيم النفوذ الشيعي.

وهكذا، مع مزيد الأسف، وسط تراكم الأخطاء، يبدو كأن هناك من يريد إبلاغ اللبنانيين رسالة دامية وموجعة مضمونها أن ثمن الحقيقة سيكون باهظاً جداً، وبناء عليه المفاضلة بين معرفة الحقيقة ... ونسف «وفاق الطائف».