الهاجس الجزائري: غياب «بوتفليقة» ومعضلة حكمه

TT

برزت معضلة نمط حكم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في إدارة الدولة ومؤسساتها بعد مضي أكثر من شهر على وجوده خارج البلاد للعلاج. نمط حكم انفرادي هيمن على الجزائر منذ الاستقلال بالغا ذروته خلال نظامي الراحل هوراي بومدين والرئيس الحالي. ولو أن شمولية نظام بومدين انسجمت، نسبيا، مع أهداف تلك المرحلة التاريخية، غداة الاستقلال، لتأسيس الدولة وتعزيز الشخصية الوطنية.

صحيح، أن الحكم الانفرادي ليس غريبا على الدول العربية، اذ عرف أسوؤه في عراق صدام حسين، لكن خصوصية تجربة الجزائر الديمقراطية والبناء المؤسساتي فيها طيلة التسعينات دفنا، من المفروض، إلى الأبد انجراف الرؤساء نحو نظام الرجل ـ السلطة أو السلطة ـ الرجل، وذلك مهما كانت عبقرية المعني بالمنصب. وتذكرني جزائر بوتفليقة بما قاله شارل ديغول (رئيس فرنسي سابق)، وقبله بزمن بعيد نابوليون بونابرت تجاه دولتهم: «أنا فرنسا وفرنسا أنا»!

تجسيد الدولة في فرد وشخصية ليس وضعا خاليا من العواقب أو التناقضات، كما بلورته حالة الشلل التي برزت إلى الوجود في المؤسسات الجزائرية بعد طول غياب بوتفليقة عن السلطة. صحيفة «الخبر» المحلية كتبت تقول: «منذ انتقل رئيس الجمهورية إلى باريس يوم 26 نوفمبر الفارط بغرض العلاج قلّ النشاط داخل مؤسسات الدولة سواء على مستوى البرلمان بغرفتيه أو على مستوى وزراء الطاقم الحكومي. إذ لم يعقد المجلس الشعبي الوطني أي جلسة علنية لمناقشة مشاريع القوانين المعروضة عليه، وتكاد الدورة الخريفية الحالية التي لم يعد يفصل عن نهايتها إلا شهر واحد تمر بيضاء لو استثنينا منها قانون المالية لسنة 2006». وتعترف الصحيفة أن «المؤسسة التشريعية في حالة بطالة، وأنها بطالة ليست على علاقة بنقص مشاريع القوانين، وإنما على ارتباط وثيق بغياب الرئيس».

ماذا أقول؟! الوقت ليس للعتاب. الرجل ما يزال يتعافى من مرضه وأتمنى له الشفاء، لكن ما يشكله غيابه من تهديد للاستقرار كان وما يزال لبًَ معارضة القوى الديمقراطية في المجتمع لهكذا نظام يحكم دولة فتية ما تزال ركائزها تواجه أشباح ماض أليم.

في العاصمة لا أحد يدري إن كان أحمد أويحيى رئيس الحكومة أو عبد العزيز بلخادم ممثل الرئيس بوتفليقة هو المسؤول عن الباخرة (إلى حين)؟ والاشكالية أن كلا هذين المسؤولين له قناعة تامة بأنه، هو، المعني بهذه المسؤولية! الأمر الذي فتح الصراع على السلطة قبل أوانه دون حياء أو تقدير للظرف.

المادة 88 من الدستور، تناولت حالة شغور الرئاسة لعدد من الأسباب منها الوفاة أو إصابة الرئيس بمرض خطير. وفي حالة إصابة الرئيس بمرض خطير يبعده عن السلطة يتسلم رئيس مجلس الأمة الرئاسة لمدة 45 يوما، لكن لا يتم ذلك، الا بعد اجتماع المجلس الدستوري الذي يقترح على البرلمان بغرفتيه اعلان حالة تعذر ممارسة الرئيس لمهامه. وبعد انقضاء فترة 45 يوما، وما يزال الرئيس غائبا عن منصبه، أي استمرار حالة شغور المنصب سيعدُ عندها الرئيس، ضمنيا، مستقيلا! وفي حالة تسجيل الاستقالة أو الوفاة (بعد انتهاء الفترة) يجتمع المجلس الدستوري ويسجل شغور رئاسة الجمهورية نهائيا، ويُحول قرار إعلان الشغور للبرلمان، الذي سيكلف رئيس مجلس الأمة بالرئاسة لمدة أقصاها 60 يوما إضافية لتنظيم انتخابات رئاسية وانتخاب رئيس جديد.

اذن، ظاهريا لا يبدو أن المادة 88 تنطبق على حالة الرئيس الصحية، اذ أُعلن مرارا أنه غير مصاب بمرض خطير. لذا، هناك احتمالان: إما أن المرض، فعلا، غير خطير وسيعود الرئيس قريبا لمنصبه أو الاحتمال الثاني والأسوأ: أن الرئيس مصاب بمرض خطير، لكنه هو ومحيطه وعائلته لا يريدون الإفصاح عن ذلك لإحتمال إمكانية مضيه في قضاء عهدته الرئاسية. وضعية مقاربة لما عاشته الجزائر مع مرض ووفاة الراحل هواري بومدين عام 1978.

لكن في كلتا الحالتين، لو اعتمدنا على مقاييس ديمقراطية في التحليل تجعل من صحة رئيس دولة منتخب قضية وطنية لا تقتصر على أفراد عائلته أو على «رواد البلاط» الذين تكاثروا خلال سنواته، نجد أنه في كل الحالات كان من المفروض على المجلس الدستوري الاجتماع للنظر في شغور الرئاسة وتقصي المعلومات عن صحة المسؤول الأول في البلاد. لكن، الذي حدث أن القائد غاب والمنصب شغر والمجلس الدستوري لم يجتمع كون المؤسسات تشعر بأنها في خدمة الرئيس وليست في خدمة الدولة والمجتمع.

ألا يتذكر بوتفليقة ما قاله يوم تأبينه، التاريخي، لصديقه ورئيسه الهواري في مقبرة العالية: «كيف نؤبنك يا بومدين»؟ فلا أصدًق، كيف أنه لم يستفد خلال حكمه من دروس نظام الراحل بومدين والعمل على تفادي مطًباتها في عهدته؟ خصوصا، إذا علمنا أن تلك «المطًبات» كانت خلف النهاية الحزينة للراحل، الذي لم يتوقع أن تُفاجئه المنية. الموت لا يستأذن أحدا.

َضف الى ذلك، إن مثل هؤلاء الرؤساء يتقمصون لقوة شخصيتهم وشعبويتهم صورة ورمز الأب على مستوى الدولة. ولا بأس أن نبحث في تفسير نشأة السلطة وتطورها في هكذا أنظمة، من المحيط الى المحيط، لا سيما أنها لم تستطع تجاوز ثقافة النظام الأبوي العتيق الذي يتميز بهيمنة الأب على فضاء الأسرة والحاكم على فضاء القبيلة والأمة، حتى لو جرى اندماج هذه الثقافة اليوم بقيم عصرية. وأذكر أمثلة (مع اختلاف، طبعا، نمط الأبوة بينهم): الرئيس صدام حسين في العراق وجمال عبد الناصر أو حتى حسني مبارك في مصر وياسر عرفات في فلسطين وحافظ الأسد في سورية والملك حسين في الأردن والحبيب بورقيبة في تونس والشيخ زايد في الإمارات والحسن الثاني في المغرب والملك فهد في السعودية. هكذا، غالبا ما يؤدي زوال الحاكم السياسي فيها إلى شعور الرًعية، عموما، بالغبن والتيتم. بالمقابل، لمحة سريعة على تطور المجتمعات الغربية تبرز لنا أن أنظمتها تجاوزت هيمنة الحاكم ـ الأب لتلاشي النظام الأبوي فيها، على الأقل في شكله التقليدي.

عودة إلى الجزائر، أعترف أن «أبوة» بوتلفيقة، وانفرادية حكمه، تُمثلان نمط حكم سياسي متأرجح بين القديم والحديث: لا تُميزه الديكتاتورية والصرامة الأمنية المتوقعة في الأنظمة الأبوية، كما أنه لا يفسح المجال، من جهة أخرى، للديمقراطية الملتزمة بالموضوعية ونزعة عقلانية. وتبقى قناعتي أن الرئيس بوتفليقة، لعلمه وحبكته، كان بامكانه أن يكون قائدا لنمط أكثر حداثة في إدارة دولة تنبض حيوية، لولا اختياره توحيد صفوف الأمًة بثقافة حكم قديمة. أما الآن بقي أمامه، بعد عودته المرتقبة، إما تنظيم تنحيه عن السلطة لأسباب صحية بعد أشهر قليلة، وبالتالي تحضير انتخابات رئاسية جديدة. أو السيناريو الأكثر احتمالا، في ظل التكتم الذي حام حول مرضه، استمراره في رئاسة البلاد وحتما سيكون ذلك بسلطات سياسية مبتورة نظرا لطول مكوثه خارج السلطة وتضخم أطماع «رواد البلاط».

الطبيعة تخشى الفراغ، فما بالك الحكم.

[email protected]