وهذه عمارة أخرى هوت! ومع كل مبنى ينهار تتكشف سوءات الادارة البيروقراطية، وسوء الرقابة، ولا مبالاة اجهزة المحاسبة. هندسياً العمائر لا تسقط من تلقاء نفسها إلا في الزلازل والكوارث الطبيعية، اما الكوارث من صنع الانسان فتأتي نتيجة إهماله او طمعه او جهله. الناس تضع ثقتها فقط عندما تظن أن هناك رقابة صادقة ومحاسبة مستمرة، فهي تتبضع طعامها وشرابها، وتسكن بيوتها، وترسل اولادها للمدارس، وتركب الطائرات والقطارات. كله مبني على كلمة واحدة هي الثقة. بدونها الناس تخاف من ان تكون الأغذية فاسدة والحديد مغشوشا والمحركات غير مصانة.
حادثة انهيار عمارة في مكة أمس الأول سلطت الاضواء عليها اكثر من غيرها لانها المكان والمناسبة الأكثر إحراجا. ولعل هذه المأساة بحكم مكانها وزمانها تضع قواعد تحد من كوارث مقبلة، حيث تقنن المسؤوليات فلا يعاقب صاحب العمارة الذي ربما خالف قواعد البناء او الصيانة بل تتجاوز المحاسبة الى من هو أعلى من ذلك، كل الدوائر المسؤولة عن الاهمال الذي يولد وسط الرشاوى او المجاملات او اللامبالاة. انهيار عمارة في حقيقته دليل على انهيار سلم المسؤولية، ولا بد عند كل عمارة تنهار من محاسبة المسؤولين لا صغارهم فقط. لأن محاسبة المخالفين الصغار تعني استمرارها. محاسبة الصغار ربما ترضي الرأي العام لكن محاسبة الكبار توقف انهيار العمائر، لأنها تعمم المسؤولية.
الأكيد ان علينا ان ننطلق من حقيقة اولى وهي أن العمائر لا تسقط بذاتها، ولا بد من سبب للمأساة وقتل هذا العدد من البشر. المسؤولية تعني ان دماء الذين قتلوا في الحادث لن تذهب من دون عقاب من تسبب فيها. المسؤولية تعني أيضا أن اصحاب العمارات الآيلة للسقوط سيعرفون انهم سيحاسبون غدا، وسيعرف رؤساء البلديات انهم سيحاسبون، بتهم خطيرة كون أجهزتهم لم تؤد واجبها كما تفرض عليها المسؤولية.
ان ثقافة المسؤولية ليست ترفا بل هي قواعد تنظم العلاقة وتعنى بالحقوق والواجبات. وهي بيننا بكل أسف لا تطبق إلا في نطاق ضيق لأن منافع الصلاحيات يتمتع بها الكبار، ومخاطر المسؤولية تترك للصغار وتنتهي بالتهرب وتحميل المسؤولية على القضاء والقدر متناسين الاسباب. قبل ربع قرن انهارت مدرسة على رأس طالبات فأثارت حزنا عميقا عند الناس وغضبا شديدا ايضا وتبعتها حوادث قليلة اثارت المشاعر والنقد ولأنها كبيرة جدا وجاءت المحاسبة فيها على أعلى مستوى، لكن الاحداث الصغيرة تنسى مع التفاصيل ويلام عليها صغار الموظفين حتى تقع كارثة كبيرة فتزلزل مشاعر الناس. المحاسبة المتكاملة ستؤدي الى قطع دابر الفساد بما يعنيه، مثل منح رخص بناء في مواقع خطرة، او إجازات إسكان غير مستحقة. وبدون ثقافة المحاسبة تزداد احتمالا ان تهوي المصاعد براكبيها، وتحترق البيوت بأهلها، وتنهار اطول العمائر بساكنيها.