فلنقلها

TT

ركبت مع سائق تاكسي قبل مدة، ومن عادتي أنني لا أحب أن أتجاذب أطراف الحديث مع أي سائق أو راكب بجانبي حينما أكون في السيارة، وهي عادة جرت ولا أريد تغييرها.. غير أن الحركات التي كان يبديها، والكلمات المبهمة التي كان يطلقها، وتعبيرات وجهه التي كانت لا تنم عن خير، كل هذه استرعت انتباهي وجعلتني أركز عليه.. وفجأة أدار رأسه للخلف والتفت ناحيتي قائلاً بغضب: تصور ماذا حدث لي اليوم؟! الواقع أنني فزعت عندما رأيته ينظر لي ويترك الطريق فقلت له: أرجوك انظر أمامك وكلمني فأنا أسمعك، وأرجوك أيضاً امسك (الديركسون) جيداً ولا تحرك يديك وأنت تتكلم.. واخذ يكلمني وينظر بين الحين والآخر في وجهي من خلال المرآة العاكسة، وقال: قبل ساعتين من الآن ركب معي احد الزبائن ونسي شنطة صغيرة بها ثلاثون ألف ريال، وأجهدت نفسي أكثر من ساعة محاولاً اقتفاء أثره، وبعد بحث مضن وجدته أخيراً في احد الفنادق، وعندما أعطيته الشنطة لم ينطق بأي كلمة، عندها سألت السائق: هل أعطاك مكافأة؟!، قال: أية مكافأة يا أستاذ (!!)، لقد اخذ يعد نقوده أمامي، وكان بين الفينة والأخرى يحدق بي وكأنني أريد سرقتها، وبعد أن أتم عدها، زغرني بعينه ثم أدار لي ظهره ومضى دون أن يتفوه حتى بكلمة شكر واحدة، وهذه هي التي كنت أريدها فقط.

قلت له محاولاً تخفيف غضبه، وان اقطع كذلك دابر الحديث بيننا: عليك يا صاحبي ألا تأسى، فقد أسديت معروفاً لإنسان (وغد)، وهكذا هو حال الدنيا: أناس شرفاء يقدمون الخدمات لأناس أوغاد لا يستحقونها، ولكنك على الأقل كسبت أجراً، وستأخذه يوماً بعد أن تصبح رميم، وسألني عن معنى الرميم، فقلت له: بعد أن تصبح جثة هامدة، عندها سكت واعتقد انه انزعج من نهاية كلامي، وعندما وصلت نفحته أجرته، وفوقها كلمة (شكراً) كبقشيش ـ وتوصيت بها ـ.

الواقع أن هذا الموقف ذكرني بموقف حصل لي في أحد البلدان الأوروبية، وكنت أحاول جاهداً أن أدور بسيارتي في شارع ضيق جداً، وقد توقف احدهم بسيارته حاجزاً خلفه رتلاً من السيارات ليعطيني الفرصة لكي انتهي من مهمتي الصعبة التي استغرقت وقتاً طويلاً، وقد كان يستطيع هو أن يتجاوزني ويمضي، غير انه صبر معي حتى عدلت سيارتي بعد جهد جهيد، ومن (تلامتى) غير المقصودة انطلقت بسيارتي دون أن أقول له: شكراً، وما زال صياحه وشتائمه ترن في أذني ـ ولا شك أنني كنت استاهلها.

وهناك شخص يختلف عني، وهو شخص أنقذوا حياته بعملية نقل دم، وعندما شفي سأل عن ذلك الذي تبرع له بدمه ليشكره، فقالوا له: أن أسماء المتبرعين لا يباح بها، ومن ذلك اليوم أصبح يتبرع بدمه كل عدة اشهر وكأنه يقول في كل مرة: شكراً.

وقد تكون كلمة شكراً صغيرة، ولكن قد يكون وقعها أكبر مما نتصور، فلنقلها لكل من يفتح لنا بابا، ولكل من يفسح لنا طريقا، أو يحلق لنا رأسا، أو ينهي لنا معاملة، أو يبيعنا سلعة، أو يحرس لنا شارعا، أو يحيطنا بالحب والحنان ويجعلنا (بالغصب) نضحك من فرط السعادة.

[email protected]