النبي الذي أذّن بحقوق الإنسان على عرفة.. لتعرف له البشرية حقه

TT

في مثل هذه الايام، قبل أكثر من 1400 سنة، وقف معلم البشرية والحق والجمال والرحمة والكمال.. وقف نبي الاسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ بـ(عرفة) يؤذن في الناس بما يسمى اليوم بـ(حقوق الانسان): يؤذن بكرامة الانسان، وحرمة الدماء والعرض والمال.. يؤذن بالمساواة ـ بالمساواة امام الشريعة او القانون.. ويؤذن بالسلام العام.. ويؤذن بالنظام.. ويؤذن باحترام المرأة وتقديرها.. الى غير ذلك من المفاهيم والقيم التي صدح وصدع بها وهو يودع الناس في ذلك المشهد العظيم الذي احتشد فيه معظم المسلمين في ذلك العصر (حج مع النبي مئة الف مسلم).

وهذا تمام مهيب بديع لما عمل له النبي قريبا من ربع قرن (23 سنة).. وما عمل له عبر هذه المدة ـ القصيرة جدا في عمر النهضات والحضارات ـ هو: تأسيس (النهضة التنويرية الأكبر والأعمق) في تاريخ البشرية كله.. وهذه جملة تحتاج الى تفصيل:

ولندع نخبة من غير المسلمين من عقلاء البشر تتحدث عن هذه النهضة السعيدة المشرقة الواعدة:

1 ـ كتب المؤرخ البريطاني الشهير (ارنولد توينبي) في كتابه (تاريخ البشرية) كتب يقول: «كان لعبقرية النبي محمد اثر كبير في نقل رسالة ربه الى قومه، وقد كان تاريخ الجزيرة العربية مرتبطا بذلك. وفي سنة 622 م تبدل الوضع تماما لمصلحة محمد ورسالته. فقد جاءه مجموعة من الواحة الزراعية، أي يثرب او المدينة، يطلبون اليه ان ينتقل اليهم، ويتولى امورهم. وبعد ذلك انتشر الاسلام في العالم واثر فيه بعمق».

2 ـ وكتب الفيزيائي الايرلندي النابه جون ديزموند برنال في كتابه الموسوعي (العلم في التاريخ) كتب يقول: «سرعان ما اضيف الى تلك العوامل السلبية، ومنها الفراغ الذي يعيشه العالم: عامل ايجابي وهو ظهور دين عالمي جديد وانتشاره بسرعة. فالحواجز اللغوية والدينية والحكومية التي كانت حتى القرن السابع الميلادي: تعزل كل ثقافة داخل محيط اقليمها. هذه الحواجز قد زالت فجأة في كل الارجاء تقريبا ما بين المحيطين: الهندي والاطلسي، وقد اشاع الاسلام المحبة الاخوية بين كل الاجناس، وحدد لتابعيه شعائر دقيقة، وكانت فلسفته قائمة على التوحيد. لقد كان دينا راسخ الأسس في قلوب الناس».

3 ـ وكتب الزعيم الهندي المعروف (جواهر لال نهرو) في كتابه (لمحات من تاريخ العالم).. كتب يقول: «والمدهش حقا ان نلاحظ ان هذا الشعب العربي الذي ظل منسيا اجيالا عديدة : بعيدا عما يجري حوله، قد استيقظ فجأة، ووثب بنشاط فائق ادهش العالم وقلبه رأسا على عقب. ان قصة انتشار العرب في آسيا واوربا وافريقيا والحضارة الراقية، والمدنية الزاهرة التي قدموها للعالم هي اعجوبة من اعجوبات التاريخ. والاسلام هو الباعث لهذه اليقظة بما بثه من ثقافة وثقة ونشاط».

وهذا ذاته شيء من التفصيل يحتاج الى مزيد من التفصيل.

فمن نماذج النهضة التنويرية الكبرى التي قادها نبي الاسلام:

اولا: نهضة التنوير العقلانية، وهي البداية الحقة، إذ لا نهضة حقيقية في أي حقل، في غياب العقل، او في حال تحجره وجموده. لذا نستطيع ان نقرر ـ بهدوء وثقة ويقين ـ : ان النهضة التنويرية العظمى على يد نبي الاسلام، كان (العقل) مفتاحها ونافذتها وآليتها ومدخلها.

وهذا هو التعليل العقلي والمنهجي لهذه الحقيقة.. لقد كانت الجزيرة العربية، وكان العالم كله في (غيبوبة عقلية)، وكان (الجمود الفكري) هو: العملة الرائجة والعرف الضاغط السائد الطاغي.. ويستحيل ـ باطلاق ـ : ان يحصل تقدم ونهوض وتحرير وتنوير بينما العقل (غائب) والفكر (متحجر).. ومن هنا: فقد كانت الاسبقية المنهجية والتطبيقية هي: (استحضار العقل الغائب)، وتحريك الفكر الجامد وتشغيله بأعلى معدلات طاقته.

ولقد تبدت هذه الأسبقية المنهجية في سياقات متنوعة منها:

أ ـ سياق (الامر الحصري) في البدء، او الامر بمطلوب واحد وحيد وهو (التفكير).. «قل إنما أعظكم بواحدة ان تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا».. واحدة فحسب وهي: ان تكون حرية التفكير وحركته بديلا لحالة الجمود الفكري. فما تفهم الرسالة ـ قط ـ والحالة هذه. وانما نزلت الرسالة لتفهم.. ولا يتجادل العقلاء في ان المقدمة الاولى للفهم هي: ان تكون اداة الفهم: حية لا ميتة.. متقدة لا منطفئة.. منفتحة غير منغلقة.. متحركة غير هامدة ولا جامدة.

ب ـ سياق التحريض على التفكير عن طريق النظرة الذكية المحدّقة في النفس والكون: «او لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بحق وأجل مسمى».

ج ـ وسياق الصعق بالمقارنات القياسية: «قل هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون انما يتذكر أولوا الأسباب».

د ـ وسياق الحملة الطويلة الملتهبة المركزة على التقليد الغبي الغرير على ما كان دون عقل ولا تفكير ولا حجة ولا برهان: «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون».

ثانيا: النموذج الثاني من النهضة التنويرية الكبرى التي قادها نبي الاسلام، انما هو نموذج أثمرته النهضة العقلانية الفكرية القوية اللماحة. فقد اثمر تفجير طاقة العقل والتفكير: منهجا علميا موضوعيا في التعامل مع الكون بعلم، ومن هنا بدأت المسيرة البشرية الصحيحة في العلم بـ(الكونيات) والتعامل الممتاز معها.

ولندع ـ ها هنا ايضا ـ نخبة من غير المسلمين من عقلاء البشر: تتحدث ـ بعلم وامانة ـ عن هذه القضية : قضية (أسس النهضة العلمية):

1 ـ يقول جون برنال ـ في كتابه السابق الذي اشرنا اليه آنفا ـ : «صعد الاسلام صعودا فجائيا. وكان الاثر المباشر لذلك هو التنشيط الكبير للثقافة والعلوم. وقد اصبح الاسلام نقطة التجمع للمعارف الآسيوية والاوربية، ومن ثم تدفقت في هذا المجرى المشترك سلسلة من المخترعات لم تكن معروفة ولا متاحة للتكنولوجيا اليونانية والرومانية».

2 ـ العالم المؤرخ الثاني الذي يوثق هذه الحقيقة هو (هربرت ولز). فقد سجل في كتابه (موجز تاريخ العالم) هذه الشهادة إذ قا ل: «لقد تمت للعرب في حقول العلوم الرياضية والطبية والطبيعية ضروب كثيرة من التقدم. ولا شك انهم وفقوا الى مستنبطات هائلة في المعادن، وفي التطبيق الغني لها. ولهذه التطبيقات قيمة قصوى، واثر عميق في نهضة العلوم الطبيعية في أوربا».

3 ـ اما المؤرخ العالم الثالث فهو (بول كندي) الذي جهر بهذه الحقيقة ـ العلمية في كتابه (نشوء القوى العظمى وسقوطها) فقال: «ان قسطا كبيرا من الموروث الثقافي والعلمي الاوربي هو في حقيقة الامر (استعارة) من الاسلام والمسلمين».

ثالثا: النموذج الثالث من هذه النهضة التنويرية التي قادها نبي الاسلام هو: (نموذج التسامي الانساني والديني).. ولنكتف بمثالين فحسب في هذا المجال:

أ ـ استشهد دوغلاس ريد ـ في كتابه: جدل حول صهيون ـ بمقولة واضحة وأمينة لأوغسطين. وهذه الكلمة هي: «ان الاسلام اجاز لغير المؤمنين به الحرية الاقتصادية، وادارة شؤونهم الخاصة، وكان الاسلام متسامحا مع اتباع الديانات الاخرى. وان ما حققه الدين اليهودي من ازدهار بحرية في ظل الاسلام، ما كان بالامكان تحقيقه في بداية انتشار الديانة المسيحية».

ب ـ المثل الثاني: ما قاله المفكر اليهودي المشهور (اسرائيل شاحاك) في كتابه (الديانة اليهودية)، اذ قال: «ثمة حقيقة مهمة وهي: ان طرد اليهود لم يكن معروفا عمليا في بلاد المسلمين، لان هذا الطرد يتناقض مع الشريعة الاسلامية».

رابعا: النموذج الرابع من هذه النهضة التنويرية الانسانية العالمية، التي قادها نبي الاسلام هو (اعلان وحدة الاسرة البشرية) في ذلك الزمن القصي الذي كانت تسوده العصبيات العرقية والقومية والقبلية والعشائرية، بل كانت تسود التعصبات فيما بين ابناء القبيلة الواحدة.. ومن مبادئ الاعلان وحدة الاسرة البشرية: قول الله تعالى في كتابه المجيد:

أ ـ «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة».

ب ـ «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله اتقاكم».

هذا هو نبي الاسلام الذي وقف بعرفة قبل أكثر من 1400 سنة ليؤذن في العالمين بحقوق الانسان، وليتولى قيادة النهضة ـ التنوير الكبرى في التاريخ الانساني كله.

ونبي هذا شأنه، وهذا عمله الجليل في الكفاح من اجل تقدم البشرية وإسعادها، ينبغي ان تعرف البشرية له حقه العظيم، وان توفيه اياه.. اما وفاء المؤمنين به فهو اتباعه والتزام منهجه.. واما وفاء غير المؤمنين فهو تقديره واحترامه وتوقيره من حيث انه رائد انساني عظيم قدم للانسانية الكثير.. الكثير من العلوم والمعارف والقيم والاخلاق وعلمها: كيف تكون علاقتها بربها ؟ وكيف تكون علاقة الانسان بالانسان؟ وكيف تكون علاقة الانسان بالكون؟ ومن هنا، فان الاساءة الدانماركية لنبي الاسلام: ليس عصبية دينية كريهة فحسب، بل هي ـ كذلك ـ سقوط انساني واخلاقي وحضاري. والغريب المريب: ان الحكومة الدانماركية لم تفعل شيئا جادا ونبيلا تجاه تلك الاساءة على الرغم من احتجاجات العالم الاسلامي !!