إعادة اعتبار وإعادة نظر

TT

هناك معارضون سوريون في المنفى وليست هناك معارضة سورية. والمعارضون على تباعد في ما بينهم، بقدر ما هم على انشقاق مع النظام، ومتناقضون. فما يمثله نائب الرئيس السابق عبد الحليم خدام هو تماما غير ما يمثله نائب الرئيس السابق رفعت الأسد. ومع ان الثاني يملك شبكة تلفزيونية في لندن منذ سنوات تعد الناس بقدومه الوشيك الى دمشق، فإن صوته لم يبلغ ما بلغه ظهور خدام المفاجئ في شكل معارض عنيف اللهجة ومباغت المطالب. وباستثناء مجموعة من الكتاب اليساريين، الذين ينشرون افكارهم حيث امكن، ليس هناك من شخصية سياسية رمزية سوى رياض الترك، القيادي الشيوعي، الذي جعل من معاناته في السجن شهادة ضد النظام الذي كان خدام ورفعت الأسد جزءا منه.

سارع الاستاذ عبد الحليم خدام في حديثه الى «الشرق الاوسط» امس، الى الفصل بين الذين تولوا الشؤون الداخلية وما حوت، وبينه كمسؤول عن السياسة الخارجية «التي اعلت شأن سورية». على ان ذلك يغفل مرحلة طويلة تعاطى خلالها الرجل في الشأن اللبناني بكل طياته. وكان مكتبه صالة استقبال للمتهافتين والمتكالبين على الحصص الموزعة والمواقع والحقائب. ولم تكن هناك صورة مخزية انسانيا ومذلة للكرامة البشرية، مثل مثول السياسيين اللبنانيين لدى «ابو جمال»، متوسلين الرضى، شاكين بعضهم البعض، نامّين على بعضهم البعض، متصاغرين امامه ومتكابرين على وطنهم. وكان «ابو جمال» يشكو من ان سلوك البعض منهم مقرف ومثير للاشمئزاز. وكان على حق.

لكن رغم معرفته بطبائع هؤلاء ونواياهم وحقائقهم، فإن سورية لم تكلف نفسها في اي مرحلة، التعاطي مع ذوي الكرامات والنوايا الحسنة للبلدين، الا البعض القليل. ولو فعلت لكان البلدان الآن على طريق الوحدة وليس على هذه الطريق القاتلة في كل اتجاه. ويتحمل البعض في لبنان مسؤولية عفنه وامحاء كرامته وتمرّغ جبينه، لكن هذا لا يعفي الأسلوب السوري في التكبر وفي التمتع بإذلال الذين اذلّوا انفسهم.

هناك فئة تعاملت مع دمشق ضمن روح المسؤولية والشعور بمدى حاجة البلدين الى بعضهما البعض، ومدى اهمية التكامل والتعاون والتنسيق في كل المجالات. وكان هناك فريق كبير، في سورية كما في لبنان، يعتبر ان خلاص البلدين هو في رفع مستوى العلاقة من لغة الأمر والطاعة، الى لغة العقل والقلب، ومن لغة التهديد بملفات الفساد والنساء والصفقات الموبقة، الى لغة التحاور والتبادل والمشاركة والمصالح والتقدم. لكن للأسف لم يحصل ذلك او شيء منه. وبقيت العلاقة أسيرة سلوكين لا ثالث لهما: الوعد لمن يخضع الخضوع الأعمى، وتجنب دعاة التفاهم العميق والشراكة العميقة الطبيعية البعيدة المدى.

لهذا وصلنا الى هذه الحال البائسة والمفزعة. والشديدة الخطورة ايضا. والأخطر من انشقاق خدام ورفعت الاسد ورياض الترك، هو هذا الشعور السائد في لبنان حيال سورية، والعكس. فالناس والفئات التي كانت تتظاهر في شوارع بيروت طلبا للوحدة مع سورية، اصبحت الآن تخرج ضدها. والأزمة مفتوحة. والمأزق مغلف. والبادرة، تكرارا، في يد دمشق.