غير صحيح أن عالما بلا شارون أفضل

TT

الاهتمام العربي غير المسبوق بمرض رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون يدل على النضج السياسي وعلى استيعاب معادلات الصراع في الشرق الأوسط، فاسرائيل بعد اكثر من نصف قرن من انشائها غدت جزءا من هذه المنطقة تؤثر فيها وتتأثر بها ان سلبا وان ايجابا وهذا يشمل السياسة والاقتصاد والصحة والامن والبيئة والمزاج العام والثقافة والعلوم وكل شيء.

كان الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات، رحمه الله، يعتبر ان سبب العنف الاهوج الذي مارسه شارون، وبخاصة بعد الانتفاضة الاخيرة وبعد ان اصبح رئيسا لوزراء اسرائيل، ضد الشعب الفلسطيني يعود في جانب كبير منه الى اسباب ذاتية وشخصية و«أبو عمار» كانت لديه قناعة لا يقبل النقاش فيها بأنه هزم هذا الرجل، الذي كان يومها وزيرا لدفاع بلاده، هزيمة منكرة في لبنان في عام 1982 بعد ذلك الغزو الاسرائيلي الشهير لنحو نصف الاراضي اللبنانية.

والحقيقة ان مع ياسر عرفات بعض الحق، أو الكثير من الحق، ليصل الى هذا الاعتقاد فالمقاومة الفلسطينية، التي كان وصفها وزير الدفاع الاسرائيلي الاسبق موشيه دايان بأنها تشبه بيضة في يده يستطيع سحقها متى شاء صمدت صمودا اعجازيا لنحو ثلاثة شهور كانت خلالها تحت حصار من كل الجهات وكانت النتيجة ان منظمة التحرير التي جاء شارون الى لبنان لتدميرها بنيويا وسياسيا قد انطلقت انطلاقة جديدة ادت الى اعتراف الولايات المتحدة بها والى اتفاقيات اوسلو التي لو دقق ذوو الرؤوس الحامية بها جيدا لوجدوا انها جاءت كشهادة وفاة معلنة للنظرية الصهيونية التي قامت على اساسها دولة اسرائيل والقائلة بـ«نفي النَّفْي ونفي الاغيار».

لقد قاد شارون الجيوش الاسرائيلية الى بيروت، التي كانت المقر الرئيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهو عاقد العزم على دفن هذه المنظمة ودفن النزعة التحررية للشعب الفلسطيني الى الابد ولقد كان قد خطط لوضع عرفات وزملائه بعد القاء القبض عليهم في شباكٍ تنقلها مروحيات الجيش الاسرائيلي الى تل ابيب ليحاكموا هناك كمجرمي حرب كما حوكم الالماني آيخمان الذي اختُطف من احدى دول اميركا اللاتينية وأُعدم ودفن في اسرائيل بتهمة المشاركة في المجازر والمذابح التي تعرض لها اليهود إبَّان الحقبة النازية المرعبة في آخر عقد سنوات النصف الاول من القرن الماضي.

لكن هذا لم يحصل فالمقاومة الفلسطينية ومعها الحركة الوطنية اللبنانية ولواء من الجيش السوري، الذي كان قد بقي في بيروت، قاتلت وصمدت لنحو ثلاثة شهور وعرفات ورفاقه لم يستسلموا ليُؤخذوا بشباك الى تل أبيب ليحاكموا كما حوكم النازي آيْخمان بل خرجوا وأيديهم مرفوعة بإشارات النصر وخرجت قواتهم كقوات منتصرة وبكل اسلحتها بينما عاد شارون الى اسرائيل وهو «مكسور الخاطر» ليحاكم تحت ضغط الرأي العام العالمي والرأي العام الاسرائيلي على الدور القذر الذي لعبه في مذابح صبرا وشاتيلا الشهيرة والمعروفة.

وهكذا فربما شارون، وبخاصة بعد ان برز مجددا في الواجهة اليمينية الاسرائيلية، بعد انتكاسة عملية السلام وسقوط ايهود باراك وحزب العمل، انطلق في جانب كبير مما فعله، ان قبل ان يصبح رئيسا للوزراء وان بعد ذلك، من منطلق شخصي ذاتي واراد ان يصفي حساباته القديمة مع عرفات لكن الحقيقة ان رئيس الوزراء الاسرائيلي، الذي يصارع الموت الآن في مستشفى هداسا «الحداثة» في عين كارم في الضاحية الغربية للقدس، تصرف وبقي يتصرف، منذ ان كان ضابطا صغيرا وحتى لحظة انفجار شرايين دماغه قبل ايام، على اساس الاخلاص المطلق للثوابت الصهيونية ووفقا لمصلحة اسرائيل ومفهومه لطبيعة الصراع في هذه المنطقة.

ان اسم «كاديما»، الذي اعطاه شارون للحزب الجديد الذي شكله بعد ان استنفد كل امكانيات التعايش مع حزب «الليكود» وعندما لم يعد قادرا على العيش مع بنيامين نتنياهو بين ذراعي هذا الحزب، هو ذات الشعار الذي بقي يلازمه خلال كل سنوات تاريخه العسكري الطويل.. لقد كان امره المستمر لجنوده، منذ ان كان قائدا لوحدة القتل والارهاب وحتى فتح ثغرة «الدفرسوار» خلال حرب اكتوبر (تشرين الاول) عام 1973، هو: «تقدموا» او الى الامام.

والتقدم الذي قصده شارون عندما اسس «كاديما»، الذي اصبح ومنذ اللحظة التي أُنشئ فيها اهم الاحزاب الاسرائيلية، هو مغادرة مواقع «الليكود» التي لم تعد تلائم تصوراته ومفاهيمه المُستجدة لطبيعة الصراع في المنطقة بعد اقناعه بضرورة قيام الدولة الفلسطينية واتخاذه الخطوة الاولى على هذا الطريق بالانسحاب من غزة واستعداده للانسحاب من الضفة الغربية وان ليس على اساس قراري مجلس الامن الدولي 242 و338 وخارطة الطريق وتطبيقا لاتفاقيات اوسلو.

وبهذا فانه من الطبيعي بل من الضروري ان يهتم العرب، وفي مقدمتهم الفلسطينيون، كل هذا الاهتمام بمرض شارون فالمسألة ليست مسألة رئيس وزراء دولة مفروضة على هذه المنطقة وموجودة في الشرق الاوسط، كل هذا الوجود، بحكم الامر الواقع.. انما مسألة برامج وسياسات ومسألة موازين القوى الاسرائيلية الداخلية التي لا يزال هذا الرجل، حتى وهو الآن على فراش الموت، الرقم الرئيسي فيها والتي لا يزال حزبه «كاديما» هو الحزب الذي من الممكن ان يبرم الفلسطينيون معه اتفاقية السلام المعقولة وليس المنشودة.

جاء في برنامج «كاديما» الذي اعتُبرت مبادئه وافكاره نقطة الوسط بين افكار وسياسات حزبي «العمل» و«الليكود»: «ان الهدف الاعلى لحكومة برئاسة كاديما هو المحافظة على وجود دولة اسرائيل كوطن آمن للشعب اليهودي في ارض اسرائيل».. وهنا فانه واضح جدا ان هذا البرنامج، الذي هو برنامج شارون، قد اغفل الحق التاريخي والارض الموعودة وانه لم يقل في كل ارض اسرائيل وانما قال: «في ارض اسرائيل»!

وجاء في هذا البرنامج ايضا: «ان الحزب يرى ان التقدم بعملية السلام مع الفلسطينيين يشكل هدفا مركزيا ولذلك فانه سيعمل على دفع هذه العملية بكل السبل وعبر كل القنوات الممكنة ومن اجل وضع أساسي لترسيم الحدود الدائمة لدولة اسرائيل والتوصل الى الهدوء والسلام.. ان الحسم بين الرغبة في السماح لكل يهودي بالاقامة في جميع انحاء ارض اسرائيل وبين وجود دولة اسرائيل كوطن قومي لليهود يتطلب ضرورة التنازل عن جزء من ارض اسرائيل.. وان التنازل عن جزء من ارض اسرائيل لا يشكل تنازلا عن الايديولوجية الصهيونية وانما تطبيقا للايديولوجيا التي تهدف الى ضمان وجود دولة اسرائيل كدولة يهودية وديموقراطية في ارض اسرائيل».

فهل يوجد كلام اوضح من هذا الكلام بالنسبة لتخلي شارون عن ثوابت الحركة الصهيونية المعروفة وبخاصة بالنسبة لما يسمى ارض اسرائيل التاريخية..؟!

ثم فالاوضح من هذا هو ان برنامج «كاديما» الذي هو زبدة قناعات شارون الجديد نصّ على «ان المصلحة في وجود دولة اسرائيل كدولة قومية ودينية تتطلب القبول بالمبدأ الذي فحواه ان انهاء الصراع يكون من خلال قيام دولتين قوميتين على اساس الواقع الديموغرافي الذي يضمن السلام والامن لكلتا الدولتين»!

ولذلك واستنادا الى هذا كله فانه من الضروري ان يهتم العرب كل هذا الاهتمام بمرض شارون فالمسألة تتعلق برجل، جعلته الاقدار آخر قادة اسرائيل التاريخيين، قد انقلب على كل قناعاته السابقة وبات اكثر واقعية حتى من الذين يقفون على يساره وذلك رغم انه في برنامج «كاديما» لم يغير مواقفه السابقة لا بالنسبة لموضوع القدس ولا بالنسبة لمستقبل المستوطنات الكبرى ولا بالنسبة لقضية عودة اللاجئين الفلسطينيين.

**

ومن نكد الدنيا على المرء ان يرى

عدُّواً له ليس من صداقته بدُّ

ان المسألة ليست حبّا وكرها.. انها مسألة سياسية معقدة ولذلك في ظل الواقع الاسرائيلي الحالي وعلى اساس موازين القوى الدولية القائمة وانطلاقا مما نراه بأعيننا ونسمعه بآذاننا كل يوم فانه غير صحيح: «ان عالما بدون شارون أفضل».. و«رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه»!!