مقاربة أخرى: «فرنسا الضواحي» في مرآة التاريخ

TT

يحثنا مطلع عام جديد على العودة إلى فرنسا لإلقاء نظرة على «انتفاضة» الغضب التي انفجرت قبل شهرين في ضواحي مدنها الكبرى ومدى فاعلية منهجية الداخلية الفرنسية في معالجتها. ومن أولى الملاحظات، اشتداد توتر العلاقات في هذه الآونة بين الأطراف المعنية بالأحداث، لكن السلطات الرسمية تبدو مصرة في مُضيها في التقليل من عُمقها وأثرها على استقرار البلاد، كما تُحاول تعويم «انتفاضة» الشبان الفرنسيين ذوي الأصول المغاربية والأفريقية باختصارها في المحاور الأساسية التالية:

> اعتبار الأحداث محصلة لانعدام التوازنات العمرانية وغياب المساواة في التنمية المحلية والإقليمية.

> تفسيرها كعجز لاندماج سكان «الضواحي» في المجتمع.

> الميل لتعميم الأحداث في إطار ملف هجرة لا يخص فرنسا وحدها بل أوروبا قاطبة.

> ترجمة الظاهرة كامتداد للتطرف الإسلامي في أوروبا، لاسيما أنه الخطاب «الموضة».

هذه المحاور تُغيب واقع المعاناة وتتنكر لتشخيص داء «الضواحي» الكامن أصلا في تمييز عنصري مقيت متجذر في عقليات وسلوكيات غالبية في المجتمع الفرنسي تميل إلى رفض وكراهية الآخر. وعلى هذا الأساس جرت اختراقات متكررة في الحقوق الدستورية والاجتماعية لهذه الشريحة التي أصبحت تلمُ تحت علم الجمهورية «مواطنين من الدرجة الثانية»، أي مواطنة منقوصة أعدمت فرص الأولياء في التعليم النوعي لأبنائهم أو حثهم على التفوق في إنجاز أي شيء، خصوصا لما يكون صعبا عليهم التوغل في سوق العمل والاحتراف، فنسب البطالة بينهم أضعاف ما هي عليه خارج «الضواحي».

للعلم، فإن التقليد الفرنسي لا يعرف هذه الشريحة بمفهوم «الأقلًيات العرقية»، كما هو الحال في بريطانيا التي رسمت لأكبر أقلًياتها من سكان مستعمرتها سابقا الهند (ذرة التاج البريطاني) سياسات وصخرت لها ولغيرها في المملكة إمكانيات سمحت بتفاعلهم معها في حركية منتجة، عكس الحركية العقيمة في فرنسا. في ظل شعار «كلنا فرنسيون» غطًت فرنسا حقيقة التفرقة العنصرية وهمشت الأقلًيات على أرضها، فضاع ليس جيل أو اثنان فقط بل أكثر، ونجد أن قلَة من المغتربين استطاعت التخلص من «الغيتو» لحياة أفضل.

من ثم أرى أن فهم أزمة «الضواحي» تستلزم وقفة مع «الماضي الذي لا يمضي» بين فرنسا والجزائر(دُرة «تاجها الإمبراطوري») نظرا لهيمنة واضحة للهجرة الجزائرية في أوساط المغتربين. قصة هجرتهم صعب اختصارها في أسطر كونها طويلة وحافلة بالأحداث ميَزتها هجرات الجوع وأخرى إجبارية استغلت فيها اليد العاملة الجزائرية كعمالة مُستعبدة. ففي عام 1954 نشرت السلطات الاستيطانية دراسة تحت عنوان «مكافحة الجزائريين للجوع» تبحث ظاهرة الفقر الذي عانى منه المُستعمَر الجزائري (الملًقب آنذاك بلفظ عنصري محقر: «الأندجين»). وأشارت الدراسة الى أن هجرة العرب المسلمين من الجزائر إلى أوروبا تعود إلى عام 1900، حيث كانت الجزائر تُصدر إلى فرنسا الميتروبول (الدولة الأم) الغنم، عندها كان عدد من الرعاة يرافقون قطيعهم إلى هناك، مُستقرين فيها أحيانا للعمل في المصانع. لكن يبدو أن أولى أكبر الهجرات جرت خلال الفترة 1904ـ1907 غداة الإضراب الذي شل موانئ مارسيليا (جنوب فرنسا)، حيث لجأت شركة الميناء إلى الاستعانة بالجزائريين. وعام 1914 عند اندلاع الحرب العالمية الأولى عشرات الآلاف رحلوا في هجرات إجبارية لبناء صناعات الميتروبول وإعادة بناء وترميم مدنها المهدمة في الحرب، فضلا عن أولئك الذين جندوا في جيوش التحالف. واستمرت الهجرة لتصل ذروتها عام 1924 لما ناهز عدد المهاجرين 74 ألف عامل لتحافظ بعدها على وتيرة 30 الى 50 الف مهاجر سنويا عارفة طفرات أخرى خلال الاستهلاك البشري الكبير الذي تسببت فيه الحرب العالمية الثانية (1939ـ1945) ومتطلبات إعادة إعمار المدن الأوروبية في ما بعد.

مع ذلك، لم تلتفت فرنسا الحضارية يوما تجاه هؤلاء المغتربين لتعترف لهم بامتنانها لدورهم في بنائها واستقلالها، على العكس فقد قمعت وحظرت الحركة في أحيائهم مرات عديدة، ومن الأحداث المروعة التي تعرضت لها الجالية الجزائرية المغتربة نتذكر مجازر 17 أكتوبر 1961، التي ارتكبت في حقهم باشراف موريس بابون محافظ شرطة باريس. اضطهاد استمر ضدَهم (بعد استقلال أرض الوطن) تحت أقنعة مختلفة حركها اليمين المتطرف والمتعاطفون معه.

وضعية هؤلاء تُذكرني بما علًق به وزير الداخلية الفرنسي آنذاك فرانسوا ميتران عام 1954 لرئيس حكومة بلاده بيير مانداس فرانس عن حالة الهدوء غير المعتاد، التي كانت تسود المدن الجزائرية قائلا: «عليك أن تحذر صمت الجزائريين»، فعلا كان ميتران الداري بروح مقاومة «الأندجين» يدرك أن «الصمت» لا يدل أبدا على الرضى ولا يعني أن معاناة عقود من الأبارتيد والجوع ودحر الحقوق ستذهب هدرا، لاسيما أن المنبوذين أثبتوا خلال أيام قدرتهم على تفجير ثورة شرسة لم تهدأ بعدها البلاد إلا بانتزاع الاستقلال الوطني. تاريخ يجعلنا نفهم أن تطرف الاستعمار في عنفه أدى الى عنف في رد فعل الثُوار الجزائريين.

لذا انعدام وجود صوت سياسي اليوم عند «الأندجين الجدد» في فرنسا لا يعني ديمومة الوضع السائد في «الضواحي» إلى الأبد، إذ أتوقع أن تطرف العنصرية يدفع إلى مزيد من التطرف في رد فعل شبانها مستقبلا، إن لم تقدم الحلول الشافية لتحسين وضعهم في المجتمع. فصيحتهم في خريف 2005 ضد التهميش ميزها طابع خاص يقارب نسبيا «انتفاضة» السود في الولايات المتحدة في منتصف القرن الماضي. لكن سيناريو «الضواحي» على عكس حركة تحرر الأفارقة ـ الأميركيين، في حاجة ماسة إلى رواد متفرغين لاستقطاب الطاقات وتأطيرها في تنظيم اجتماعي ـ سياسي له صوت وصدى في المجتمع الفرنسي لتعزيز الحقوق المدنية الموجودة باصلاحات حيوية (خصوصا في قطاع العمل) وتفعيل مفهوم العدالة الاجتماعية. حينها فقط، يُتوقع رؤية الفرنسيين ـ العرب كشركاء اجتماعيين يُحسب لهم في معادلات تكوين الرأي وتوزيع الثروات وإدارة فرنسا محليا ووطنيا. كما كشفت أحداث باريس عن ولادة وعي جديد وشعور لدى المغتربين بوجودهم في قلب أوروبا كأقلية عرقية لها مطالبها الخاصة في إطار هوية وطنية فرنسية وهوية ثقافية حضارية مسلمة.

[email protected]