لبنان: سيناريو قديم .. بمساوم جديد

TT

ما أشبه اليوم بالبارحة في لبنان... وكأن لبنان البلد الوحيد الذي يعيد فيه التاريخ نفسه بلا خجل او ملل.

عام 2006، وعشية الاستقلال الثاني للبنان، يبدو الوضع على الساحة السياسية مشابها لما كان عليه عشية الاستقلال الاول عام 1943 مع فارق وحيد: تبدل موقع المساومة على الاستقلال من طائفة الى أخرى.

عام 1943 كانت الطائفة «المساومة» على الاستقلال هي الطائفة المارونية، المهيمنة على مقدرات البلاد والمتمتعة بحماية الخارج (فرنسا آنذاك). ولكن حين استحق استقلال لبنان تغلب حس ابنائها الوطني على المصالح المكتسبة من «الأم الحنون» فاختارت الاستقلال وان بثمن داخلي هو الحفاظ على موقعها السياسي المهيمن في الوطن المستقل.

واليوم، وعشية استقلال لبنان الثاني، يتكرر السيناريو نفسه ولكن «بمساوم» جديد إذ يرفض حزبا «الثنائية الشيعية» (حزب الله وحركة أمل) التخلي عن حماية الخارج من دون مكاسب سياسية في الداخل.

ولأن «الثنائي الشيعي» يدرج ولاءه للخارج في خانة مفهوم استنسابي للوطنية ارتفع سعر المساومة على التخلي عن «الخارج» الى مستويات لا يتحملها الوطن الصغير ولا توازناته الداخلية الهشة.

إصرار حزبا الثنائية الشيعية على استئثار طائفتهما، دون باقي الطوائف اللبنانية، بحق «الفيتو» تجاه أي قرار حكومي لا يحظى بموافقتهما ـ حتى ولو اتخذ بالأكثرية الشرعية داخل مجلس الوزراء ـ قد يكون، في توقيته، «ضربة معلم» في مسعى الطائفة الشيعية لمقايضة «الخارج» بموقع هيمنة في الداخل. الا ان غرابته تكمن في طرحه باسم الحفاظ على «الوحدة الوطنية» في الداخل وهو الاسفين الاول في زعزعة هذه الوحدة.

منذ العام 1943 واللبنانيون يلاحقون سراب «الوحدة الوطنية» عند كل ازمة مصيرية فلا يجنون من هذه المطالبة سوى اعادة توزيع مذهبي للحصص الطائفية في الحكم.

قد يكون هنا بيت القصيد في ربط «الثنائية الشيعية» شرعية قرارات مجلس الوزراء بموافقتها هي عليها، بصرف النظر عن حجم تمثيلها في الحكومة وبصرف النظر عن المعادلة الداخلية التي اتفق اللبنانيون عليها في اتفاق الطائف.

من منظور محض سياسي، قد تكون «الثنائية الشيعية» مبررة في استغلال هذا الظرف الدقيق في تاريخ لبنان لتوسيع رقعة نفوذ طائفتهما وانتزاع مكاسب قد يفوت أوانها بعد قيام دولة المؤسسات ـ إن هي قامت.

الا أن خطورة المساومة الطائفية على استقلال لبنان في مرحلة قومية، لا طائفية، لا تكمن في ظهور الطائفة الشيعية وكأنها تغرد خارج سرب الطوائف اللبنانية الاخرى فحسب بل في كون هذا الطرح يتم في وقت تبدو فيه سيادة لبنان مرتبطة بشكل وثيق بسعي النظام السوري لإنقاذ رأسه من أي مسؤولية في جريمة اغتيال رفيق الحريري.

ومما يزيد من تعقيدات هذه المرحلة ان النظام السوري، بدوره، لن يكون بمنأى عن تداعيات عملية شد الحبل الجارية حاليا بين الاسرة الدولية وإيران، من جهة، ولا عن تطورات العمليات العسكرية الاميركية في العراق.

على الصعيد الايراني، يبدو لافتا تزامن اصرار حكومة احمدي نجاد على استئناف عمليات تخصيب اليورانيوم مع التصعيد المتواصل في لهجة خطابها حيال اسرائيل وكأنها تحاول تغطية تهربها من مطالب الاسرة الدولية بشأن برنامجها النووي بفتح جبهة جانبية تبدأ بتعبئة الشارع العربي ضد اسرائيل والغرب استطرادا.

ومع الاعتراف بموقف ايران الثابت من القضية العربية الاولى، فلسطين، يبدو التصعيد «القومي العربي» في لهجة الخطاب الايراني حيال اسرائيل وكأنه يتعدى، حاليا، العلاقة الايرانية الاسرائيلية إلى ابعاد اقليمية ودولية.

أما على الصعيد العراقي، فيصعب الزعم، حتى الآن على الاقل، بان الاحتلال الاميركي اعطى العراقيين نظاما افضل من نظام صدام حسين، أو انه عزز الديمقراطية فيها أكثر مما انعش الاصولية باسم المقاومة.

ولكن، سواء خرجت القوات الاميركية من العراق في مستقبل منظور، ام لم تخرج، فان من المكابرة توقع ان لا تكون واشنطن حاضرة، ميدانيا او سياسيا، على خريطة الشرق الاوسط بعد كل ما تكبدته من خسائر و اعباء «لدخول» الشرق الاوسط من باب العراق. وقد يكون التحرك شبه اليومي الذي يمارسه السفير الاميركي في لبنان مؤشرا اوليا على طبيعة «الوجود» الاميركي الجديد في الشرق الاوسط.

باختصار، لعبة حصص الطوائف في حكم لبنان لن تكون بمنأى عن لعبة النفوذ الاقليمي والدولي فيه خصوصا ان واشنطن تدرك ان أي تحول في التوازنات المذهبية في لبنان يتأثر، الى حد كبير، بتحولات موازين القوى الاقليمية وربما يعكس تطوراتها.

وعليه قد يكون السؤال الذي يطرح نفسه على «لوردات الطوائف» في لبنان هو: هل تسمح الظروف الاقليمية الدقيقة بدخول لبنان لعبة محاصصة طائفية خطيرة ام ان المرحلة تقتضي، اكثر من أي وقت مضى، الحفاظ على الامر الواقع في اطار اتفاق الطائف، مهما كان ثمن ذلك؟