تأمل في حادث جلل

TT

بكل أسى وألم، استقبل العالم الإسلامي حادث وفاة 362 حاجا من حجاج بيت الله الحرام لهذا العام في جسر الجمرات، والذي نتج بسبب تدافع غير عادي من الحجاج.

ولا يمكن النظر والتمعن في هذه الحادثة الأليمة بدون الوقوف أمام مجموعة الفتاوى التي كانت تحرم ولا تجيز أبدا الرمي قبل الزوال، خلال سنوات طويلة من التوقف والجمود الاجتهادي في الفتاوى، وعدم الاستماع أبدا الى الآراء المخلصة التي كانت تردد وتحذر مطالبة بضرورة التوسع في الفتاوى الميسرة التي تجيز الاتساع في الوقت المخصص للرمي، مستندة الى تعددية ظاهرة ومثبتة في الفتاوى الفقهية الاسلامية.

وكم هو مؤسف ومحزن أنه حتى في يوم الرمي نفسه، كان هناك رأي يصدر بتغليب قول الالتزام «بوقت محدد» للرمي متسببا، بشكل من الاشكال، في الازدحام والارتباك وبالتالي الكارثة التي حدثت.

لم يعد من المقبول استمرار الاستهانة بأرواح الناس، بفتاوى حرفية لا تراعي أوضاعا تغيرت، وظروفا تبدلت، وضرورة تبيح محظورات.

لقد اختلفت ظروف الحج، وهناك فتاوى فقهية مختلفة تتعلق بأحكامه، منها آراء تكشف عن فقر وعجز افتائي، ومنها آراء أخرى تؤمن، ممارسة وليس تنظيرا، أن الشريعة الاسلامية صالحة لكل زمان ومكان، ومن هنا لا بد من الاشادة بالرأي الشجاع للشيخ السعودي عبد المحسن العبيكان حين حرم الافتراش (وهي ظاهرة يقوم بها عدد غير بسيط من الحجاج معيقين بذلك حركة الآخرين من الحجاج ومعطلينهم عن أداء نُسُكِهم) حرمها الشيخ لما تسببه من خطر بين. هذا النوع من الآراء الجريئة والحازمة مطلوب لأنه يزيل «الرمادية» و«الميوعة» في أوضاع لا تحتمل سوى الأبيض أو الأسود بمعنى الصح أو الخطأ.

بطبيعة الحال هذا الرأي يؤكد أن دور العالم الشرعي هو البحث الدؤوب عن النصوص الشرعية والتفسيرات المناسبة لها، والتي تحفظ حرمة أرواح المسلمين ودماءهم (والتي لها القدر الكبير والعظيم عند الحق عز وجل) بدلا من الالتزام بنص تفسيري لشخص ما اجتهد بحسب علمه المحدود، فتكون الفرحة أشبه بنجاح العملية، وإن أدى ذلك الى وفاة المريض نفسه! وللتعامل مع هذه الواقعة الأليمة بات من المطلوب أن يأخذ التعامل شكلا جديدا ومختلفا، سواء كان ذلك من الناحية المادية الملموسة من مبان وتجهيزات داعمة، أو كان من الناحية الفكرية التي تقوم بتقديم الآراء والفتاوى لمعالجة ذلك الأمر المهم والحساس.

كل كلمة محسوبة وكل إشارة تقاس في حادث جلل كهذا، ولذلك كانت «بعض» الكلمات التي قيلت في خطبة الجمعة بعد هذا الحادث الأليم في بيت الله الحرام غير مُوفقة، حين قال الخطيب: «إن عدد ضحايا حادث الجمرات غير كبير ويتناسب مع النسب العالمية»، لا توجد نسب عالمية لأحداث شبيهة بالحج! ولا يوجد سوى حج واحد وأي ضحية في أي حادث هو عدد كبير جدا لذويه، وعند الله سبحانه وتعالى ايضا.

نسأل الله أن يرحم من توفاهم واختارهم لجواره، وأن يهدي للصواب من له أثر في أمور المسلمين.