هذا الجانب من النظام العربي

TT

فقدت الجزيرة العربية في الأشهر الماضية ثلاثة من قادتها: الملك فهد بن عبد العزيز، والشيخ مكتوم بن راشد، والشيخ جابر الأحمد. وفي الحالات الثلاث كان الموت بسيطا كالموت، والاستمرار بسيطا كالاستمرار. غاب الرجل تاركا الأمانة. وغاب الوارث وقد ترك للوريث راحة بال تامة وأعمالا كبرى تنجز وتستكمل. هذا وجه آخر من النظام العربي، قائم على ان يكون الحاكم في خدمة الناس وحراسة الدولة، أما الأرض فليس له فيها سوى مساحة الغائب، مودعا بالذكر الحكيم.

خاض الملك فهد بن عبد العزيز والشيخ جابر الأحمد، حربا وجودية مع الوجه الآخر من النظام العربي. النظام الذي يرفع شعار الوحدة ويمارس اضطهاد الاحتلال، ويطالب المشاركة في الثروات ويترك مواطنيه في بيوت من طين. يكثر من التعابير الكبيرة ويقلل من الأعمال الكبرى. وببساطة ورفعة، ربح الملك والأمير، حرب الاستقلال.

كانت حرب الكويت، قبل وبعد أي شيء، امتحانا للنفس العربية، للطاقة العربية على الوفاء. كانت امتحانا لكومة الشعارات التي تكدست في فراغ الحياة ونكسات السنين وضياع القضايا بين الأقدام الهاربة. وقد صمد النظام العربي في هذا الجانب، جانبه الطيب، البسيط، غير المعقد، وسقط في جانب الاستبداد والظلم والغاء الانسان ومحو المواطن وتجويع الجماهير. الغائبون الثلاثة تركوا خلفهم صورا من العمران والتقدم والعدالة، برغم كل ما بذله الجانب الآخر من النظام العربي لمنعهم عنه. برغم الحروب والتهديدات والحملات التي لم تنتج الأنظمة شيئا سواها. لقد ورث الغائبون الثلاثة، إرثا أعظم بكثير من النفط. ورثوا الثروة الكبرى، التي هي العلاقة مع الناس، ومسؤولية العمل من أجل المستقبل. وعندما كان جابر الأحمد وزيرا للنفط قبل أربعين عاما، كان يخطط لمرحلة ما بعد النفط بعد مائة عام. فالأمانة لم تكن الجيل الذي هو فيه، بل الأجيال البعيدة الآتية هي أمانته أيضا. زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون.

عندما دخلت كاميرات التصوير الى العراق مع الاحتلال الأميركي، لم استطع ان اتابع مشهد المعارك أو أن أبحث عن مؤتمرات محمد الصحاف. لقد كانت تذهلني مشاهد الفقر في العراق. والعائلات التي تستولي على كرسي أو طاولة في وزارة. وكان يذهلني مشهد بيوت الطوب وألبسة الفقراء والأولاد الحفاة، في أغنى دولة عربية بالنفط والمياه والثروات الطبيعية. وعلى مسافة قليلة من العراق، كانت دبي تنمو في الرمال بلا نفط ولا نخيل. وكانت السعودية تعمر في الرياض مدينة بحجم لبنان. وكان جابر الأحمد مكتئبا: ماذا فعلت الكويت للعرب غير مدهم بالمساعدات؟ لماذا هذه المواقف؟