حريق مسرح بني سويف.. مساءلة النظام الاعتذاري

TT

تعودنا في العالم العربي إدانة الشخص قبل مناقشة الحدث، فإذا لم نجد من ندينه قيدنا الموضوع ضد مجهول، وبقي الحدث على ما هو عليه في البعد عن المعالجة ومن الجذور، لذا ترى اللقطات الفاجعة في بلادنا تتكرر في ديمومة تجعلك في كل مرة تتساءل ألم يقع ما شابهها من قبل؟! وفي كل مرة تسمع نفس الاجوبة التقليدية، ورود الفعل المعتادة..

في الخامس من شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، اندلع حريق في مسرح بني سويف الإقليمي في مصر أثناء تقديم أحد العروض، أسفر عن مصرع 46 ضحية من المشاهدين والإعلاميين والنقاد البارزين، الأمر الذي أعقبته موجة عنيفة من الانتقادات العلنية والتنديد بموقف بعض المثقفين الذين طالبوا الرئيس المصري برفض استقالة وزير الثقافة التي قدمها (غير مكتوبة) بتاريخ 14/9/2005، ووصفهم لها بالاستقالة المسرحية، والمطالبة بتحميل وزارة الثقافة والصحة وحتى الداخلية المسؤولية الكاملة عن الحريق، فملابسات الحادث تقول إنه وبالرغم من محاولة الأهالي إنقاذ البقية المحترقة الناجية من الموت، إلا أنها سرعان ما لحقت بمن توفي بسبب انعدام إمكانية نقلها بطريقة آمنة أو علاجها بشكل صحيح، فعربات الإسعاف التي لم تتسع أصلاً لنقل الحالات، لم تسلم من تعطل بعضها في الطريق، ليزيد الأمر تفاقماً زيارة وزير الصحة للمصابين وقيام إدارة المستشفى بنقلهم بعيداً لحين مغادرته، إيحاء له باحتواء الموقف، مما أدى إلى ارتفاع نسبة الحروق وعدد الوفيات، دع عنك قوات الإطفاء التي لم تكن أول وحداتها المتأخرة في الوصول صالحة للعمل، غير الاختفاء المخزي لموظفي المسرح المسؤولين عن طفايات الحريق، لتلحقها إدانة سلوك وزارة الداخلية في تعاملها القاسي مع أهالي الضحايا وزملائهم بالاعتداء عليهم بعصي الأمن المركزي أمام مشرحة المستشفى العام ببني سويف، مدعماً بشريط مصوّر من قبل قناة محلية والسابعة بالتحديد.

تفصيل التداعيات يمنح فرصة أكبر للتأكد بأن تدارك ما حدث أو التقليل من فداحة نتائجه إنما يقع على ظهر أكثر من جهة رسمية وليست وزارة الثقافة بمفردها، ولكن إذا كنا نتحدث عن حادثة الحريق بعينها فقد أكلت نيرانها أحد مرافق الدولة التابعة لوزارة الثقافة، ومن هنا حلت اللائمة على الوزير، فهل يعني هذا أن طوال سنوات الرجل في وزارته لم تحتفظ الذاكرة فيها لحوادث أخرى! إن سجل السنوات السابقة ليشهد وقوع أكثر من حريق وفي غير مكان، مثل ذلك الذي اندلع في المسافر خانة وباب العزب والقلعة، وتهريب الآثار المصرية، وسرقة مخازن سقارة وتكسير العديد من محتويات المتحف الإسلامي أثناء نقله إلى مقره الجديد. إذن تاريخ الوزير حافل بالحوادث والحرائق، فلِمَ التحمس أخذ مأخذه منه هذه المرة فجاء على شكل تلك الاستقالة المقنعة!؟ كثرت التكهنات في تفسيرها، فمنها من يرى أنها حركة استباقية من الوزير لتوقعه بخروجه من الوزارة في التعديل الوزاري الذي كان سيجري في الأيام التالية للاستقالة، ومنها تسريب أسماء المرشحين لتولي الوزارة وعن طريق مصادر الوزير نفسه لعلمه باستبعاد الرئيس مبارك للأسماء التي ترددها الإشاعات فيضمن بذلك قطع الطريق على أصحابها، وخاصة في تلك الإشارة المبطنة التي رفض فيها تحويل مصطفى علوي، رئيس هيئة قصور الثقافة آنذاك، إلى كبش فداء، ليوقع بنفسه أمر إقالة الرجل من منصبه، وهو الذي لم يتوله لأكثر من عام واحد، جدّد له في العام الذي يليه كدليل على إنجازه النسبي خلال تلك المدة القصيرة.

أياً كانت المصالح، وأياً كانت اللعبة، وأياً كان المنتفعون، يبقى السؤال العربي العجيب: لِمَ يكون لزاماً على شخص بعينه أن يتولى وزارة، مثل وزارة الثقافة، ولمدة 19 عاماً! فالإنسان مهما بلغ من علم وابتكار وسعة أفق فطاقاته وإمكاناته محدودة ببشريته وطبيعته الإنسانية، ومن الخير أن يعطي ما عنده ويفسح المجال لعطاء غيره، هكذا يكون الثراء، وهكذا يكون التجديد، فكيف والوزارة المعنية هي وزارة الثقافة، التي يعزي علم الاجتماع تكوين شخصية الإنسان إلى دورها في حياته أولاً، فكم من السبعين مليون مصري ما زال في طور بناء الذات، وكم من هؤلاء كانت حياتهم ستتغير بشكل أفضل لو كانت دماء التطوير تسري في جسد الوزارة الأهم، ثم ماذا عن ضحايا المسرح المتضررين؟ هل من تعويضات صرفت لهم ولعلاجهم! هل من مواساة عملية لأسر من لاقوا حتفهم! وإلى من ستعود الفائدة باتهام الرئيس السابق لقصور الثقافة ومخرج العرض الكارثي هو من أمر بالانتقال من قاعة المسرح المخصص إلى قاعة أخرى غير مهيأة للفنون التشكيلية دون إذن من مصطفى علوي أو إخطاره. هل مسلسل الزج بالأسماء ينهي القضية، أم هو التعامل مع تراكمات السنوات حتى لا نتألم من رؤية ذات المشاهد مرة أخرى!

إن تأسيس معظم مسارح الدولة المصرية لا يتفق مع مواصفات الأمان المتعارف عليها للأبنية المسرحية. إن الثقافة المصرية التي تربت عليها أجيال الأمة العربية لا تقتصر على المهرجانات والصرف على عروض الأوبرا. إن تراجع أحوال الثقافة في مصر معناه التدهور فيما يغذي الفكر العربي عامة. إن البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه لا لمن يبصره.