أحن لكبسة أمي

TT

قررت في أجازتي وبعد أن حقق مشروع صنع المخللات نجاحا صاعقا، الدخول للمطبخ لأتوج فتوحاتي المطبخية باحراز نجاح آخر يعوض انقطاعي عن المطبخ وقتا طويلا كنت أطبخ فيه بحثي في مكتبات العالم المتفرقة. وأقول لبعض الناس الذين يقللون من أهمية شأن الطبخ كمهنه، إن الانقطاع عن الطبخ مثل قائد طائرة ينقطع عن الطيران أو لاعب كرة يترك اللعب، فحين يعاود العمل يشعر بنفسه مرتبكا أو فاقد اللياقة قليل الثقة بالنفس. لهذا فانني حين جلست على الطاولة مع كبستي ذكية الرائحة ومخللاتي الملونة، نهضت كل حواسي لتدعم أذني المتشوقة لالتقاط تصويت البرلمان الأسري المجتمع على الطاولة. سمعت جيدا الاسنان وهي تطحن والملاعق وهي تصطك في الصحن، وكلما همهم احد، صعدت أذني تلقف ما يلي الهمهمه لكن الهمهمة تنتهي بعد تزجرها اللقمة التالية. سمعت نحنحة قال لي عقلي هه علها «أمممه» تلذذ، لكن لاشيء!..

قال ابني أأأ فأرتفعت حواسي تشجعه هاه هه هه.َ أكمل الصبي: أمي لا تضعي مرة أخرى هذا الشيء الحالي.

قلت: اسمه زبيب. قال: نعم هذا الزبيب على الرز!. حسنا انت تأمر أمر!.

أعاد رأسه للطاولة وعاد يأكل.

سأل زوجي: هل هذا الرز احضرته معك من السعودية؟!.

لا.. من السوبر ماركت في بيروت، إنهم يبيعون الاصناف نفسها فلا داعي لجلبها من السعودية!.

ثم دخل زوجي كعادته في الابحار بالحوار إلى ما وراء الهندي:

وهل هذا الرز وارد السعودية أم وارد لبنان؟! هل التجار السعوديون يصدرون لبيروت أم يحضره اللبنانيون مباشره من الهند؟!.

عاد راسي يطرق ويحلل لو لم يكن الأكل أعجبهم كنت عرفت أسرع من البرق هذه النتيجة، كان ابني المجنون الصغير سيطرق الملعقة على الصحن ويقول: يمه مشتهي همبرقر!. وسيقول ابني العاقل: لماذا لم نحضر معنا «ميري»؟! وسيقول زوجي: وش رأيكم بكرة نتغدى بمطعم؟

لكن بما أن ولا واحدة من هذه المؤشرات ظهرت على أعضاء البرلمان بجناحية «المعارض» و«المعارض» فان النتيجة هي الموافقة بلا شك.

لماذا لم يعد أحد يتحمس لطبخ الأمهات مثلما كنا نتحمس لطبخ أمي بالتصفيق والتهليل والتشجيع والحماس الصاخب الذي كنا نطلقه حالما نشم رائحة (كبسة أمي) اممم.. وش هالريحة الحلوة يا سلام كبسة ـ رغم أننا كل يوم نأكل كبسة! ـ أممم.. متى يخلص الرز. أممم يا سلام جاء الرز. أممم.. يمه خلص الرز جيبي لنا صحن ثاني. ونحن صغار لم نكن نعرف أغاني مثل «أحن إلى رز أمي» لكن أمي كانت تعرف مدى جودة طبخها من فراغ الصحون وتخابط أيدينا المستعجلة لنهب قطع اللحم الصغيرة المختبئة بين الرز. اليوم وقد صرت أعرف كيف أصنع كبسة بجودة كبسة أمي إلا انه لم أجد جمهورا للكبسة مثل جمهورنا، وليس السبب لأن أيامنا جميلة كما يقولون أهلنا الذين لا يجدون في حاضرهم ما يفوق جمال ماضيهم. بل السبب يعود إلى أن جمهورنا لا تصل اليه الكبسة إلا وهو جائع، لا يجد في البيت ما يأكله غير الوجبات الثلاث وما أن تحين الوجبة يكون الجوع قد صنع للكبسة طريقا سلسا وحواسا صافية، فيدمدم صحنها وتسمع لصوتها هديرا وصفيرا، ولوقعها في حواسنا ثم بطوننا صوتا أجمل من تمريره ثم هدفا!. يستقبله جمهور الكبسة بالصياح.. هييييييه.

أما كبستي فقد سبقها لبطن زوجي عصير برتقال وصحن من فاكهة الرمان، وإلى بطن أولادي مناقيش زعتر كبيرة تلاها بيبسي سرق من الثلاجة وأفرغ بعيدا عني، وجدت علبته الفارغة في البلكونة، وتجنزرت معدة ابنتي بلوح من الشيكولاته انتزعته تحت ضعف والدها فقاسمها نصفه بحجة تخفيف الضرر عليها. لهذا حضرت الكبسة على طاولة الغداء مثل لاعب عجوز مل جمهوره من مجاملته وأشفقوا عليه من القول: كبسة يووووووه. الله المستعان!.

[email protected]