هؤلاء الغربيون المتوحشون؟!

TT

تزخر الصحافة العربية بكثير من النقد والتشريح للعالم الغربي وما فيه من ناس وتقاليد وتاريخ؛ ومن الطبيعى أن تكون المرحلة الاستعمارية، وحالة العبودية في الولايات المتحدة، وعنف ووحشية حالات الاحتلال المختلفة لدول وأمم في العالم، وبالتأكيد إقامة دولة إسرائيل، من الموضوعات المتعددة لوضع الأخلاقيات الغربية موضع التساؤل. وخلال الفترة الأخيرة تصاعد نقد الأخلاقيات الغربية ومدى أصالتها خاصة بعد مجموعة الإجراءات التى اتخذتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001 ضد الأقليات العربية والإسلامية، سواء في ما تعلق بقوانين قواعد الدخول والخروج من المطارات والإقامة أو المعاملة المتعسفة من قبل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية. وبالنسبة لعدد غير قليل من الكتاب القوميين والإسلاميين، فإن الاعتقاد الرائج في زيف الديموقراطيات الغربية بات شائعا، بل جزءا من الطقوس الضرورية التى تسبق كل حديث عن الديموقراطية، بل انها باتت مثل الوضوء الذي لا تصح بغيره صلاة.

ومذ عامين بدأ الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، العضو البارز في جماعة الإخوان المسلمين المصرية، محاضرة عن المفهوم الإسلامى للديموقراطية بالتعريض بالديموقراطية الأمريكية، منوها بزيفها وضحالتها وعجزها الاخلاقي؛ ومنذ أسابيع فعل الدكتور عصام العريان، العضو البارز في الجماعة أيضا، نفس الشيء في مقال نشره لنقد الليبراليين المصريين حيث لم يجد السجال معهم ممكنا من دون البدء بنقد المفهوم الأمريكي للديموقراطية. وقبل هذا وذاك كانت الصحف والكتابات «القومية» حافلة منذ الستينيات بالتهكم على الديموقراطيات الغربية لأنها تعبر عن البرجوازية مرة وعن الاستعمار مرة أخرى وعن أشكال مختلفة من الاستغلال مرة ثالثة.

والحقيقة فإنه لا توجد مشكلة في كل ذلك، ومن الطبيعى أن توضع التجارب العالمية المختلفة موضع الفحص والدراسة والتقييم من قبل الدارسين والساسة، بل ان واحدة من الفضائل الغربية هى جعل حالة النقد والتقييم والمراجعة جزءا من التراث الفكري، والبنية المؤسسية للدولة، ومع التقدم في وسائل الإعلام صارت جزءا من الرياضة القومية. ولا أظن أنه كان ممكنا في وقت من الأوقات نشر صور للمعذبين في سجن أبو غريب، ولا تتبع رحلات التحقيق والتعذيب عبر العواصم العربية والأوروبية الشرقية، وتفاصيل التفاصيل للممارسات البشعة للاحتلال في العراق أو أفغانستان لولا وجود هذه البنية الإعلامية والمؤسسية. وفي كل الأحوال فإن هذا التركيب الديموقراطي الذي لا يكف عن التساؤل هو الذي أدى إلى نهاية العبودية في الحالة الأمريكية حتى ولو كان الثمن هو الحرب الأهلية، وكان هو الذي نزع الأخلاق عن الاستعمار وحالات الاحتلال والاستغلال المختلفة، وهو الآن الذي يهب مدافعا عن حقوق العرب والمسلمين والأقليات المختلفة ومطالبا بتغيير القوانين المعادية لحقوق الإنسان. ومن المرجح أنه هو الذي سيضع نهاية لسياسات أبو غريب وغوانتانمو والاحتلال للعراق وقانون «الوطنية» الأمريكي، ونهاية لإدارة بوش وبلير عندما تحين ساحة التصحيح العظمى مع الانتخابات.

من هنا فإن الكتابات العربية عن الغرب والغربيين مهمة للغاية للعرب والمسلمين والأمريكيين والأوربيين أيضا، ولكن المشكلة سوف تظهر فورا عندما يكون ذلك تبريرا لوضع الفكرة الديموقراطية نفسها موضع المساءلة وإحلال الفكرة الاستبدادية والشمولية مكانها. وعندما يصاغ الأمر على طريقة إذا كانت الديموقراطية الأمريكية والأوروبية زائفة، فلا يوجد ضامن لكي تكون الديموقراطية العربية أفضل حالا، ولا داعي لأن يعطينا الغربيون دروسا في ديموقراطية لا وجود لها. وعندما يصاحب ذلك زوال النقد للمجتمعات العربية، أو حتى لمجتمعات شرقية أخرى، في نفس القضايا، أو بنفس الحجم والإلحاح، فإن القضية لا تكون السعي لبناء ديموقراطي أفضل وأكثر فاعلية كما يفعل الديموقراطيون والليبراليون في الغرب، وإنما هو تبرير لحالات استبدادية محزنة حادثة الآن أو أنها سوف تحدث في صيغ أخرى في المستقبل. فمن المثير أن سجون المزة وأبوزعبل وسجون أخرى كثيرة لا تعرف أسماءها في طول العالم العربي وعرضه لم تجد لنفسها مكانا كذلك الذي حصلت عليه سجون أبو غريب وغوانتانمو، ولا حصلت الأقليات الشيعية والكردية والأفريقية والمسيحية على نفس الاهتمام ـ عن حق ـ الذي حصلت عليه الجماعات العربية والإسلامية في مواجهة قوانين وسلوكيات مجحفة ليس فقط من قبل السلطات العامة بل أيضا من قبل المواطنين. المدهش في الموضوع أن كثيرا من المثقفين الذين يهاجمون بحق الغرب باستمرار في ما يتعلق بحقوق الأقليات العربية والإسلامية نجدهم يجدون صعوبة كبيرة في الاعتراف بوجود أقليات من الأصل، وتحت ظلال ما يعتبرونه الإطار الحضارى العربى الإسلامى نجدهم إما يعتبرون الحديث عن حقوق الأقليات نوعا من الفرية الغربية الساعية على التمزيق والتفتيت، أو يعتبرون أن السبيكة العربية تجعل من المفهوم لا وجود له. وبينما يرون كل مراجعة غربية لسلوكيات الأقليات العربية والإسلامية ومدى استعدادها للانصهار في المجتمعات التي تعيش فيها نوعامن القهر المنافي لحقول الإنسان، فإنهم لا يجدون مشكلة في أن يكون هذا هو المعيار الذي يحدد الموقف من الأقليات، فيكون لهم ما لنا ويكون عليهم ما علينا طالما أن العرب وحدهم والمسلمين وليس غيرهم هم الذين سيحددون المجال والمآل.

مرة أخرى فإن القضية ليست مدى صحة نقد الغرب، فهو محمود ومطلوب في كل الأوقات، ولكن استقامته الأخلاقية لا تكون ما لم يوازه نقد وتقييم مماثل لمجتمعاتنا ودولنا في الماضي والحاضر. ويصبح من قبيل المعايير المزدوجة أن نجد فحصا كاملا لتاريخ المجتمعات الغربية، ولا نجد فحصا مماثلا لتاريخ المجتمعات العربية، ونعرف كل شيء عن العبودية في الولايات المتحدة، ولا نعرف شيئا عن العبودية في العالم العربي، ونعرف كل الأحوال عن الشذوذ والانحلال وحالات الزواج والطلاق والخيانة الزوجية والغش في الامتحانات والانتخابات، ولا نعرف أبدا لماذا لا تجرى انتخابات في دول عربية كثيرة من الأصل، ولماذا لم تتطور الخلافة العثمانية إلى الديموقراطية، ولماذا طرد العرب من الأندلس، ولماذا يريد الأكراد الانفصال في العراق، ولا يثق كثير من الجنوبيين في سودان موحد، ولماذا رغم وجود مساحة وسكان يماثلون الولايات المتحدة لا يوجد لدينا نفس القدر من التقدم، ولماذا رغم كل فضائلنا التاريخية والدينية لا نصدر صادرات غير بترولية تزيد عن صادرات دولة مثل فنلندا؟

إن هذا التوازن في النقد والتقييم للعالم الغربى والعالم العربي له أهمية بالغة لأنه سوف يجعل من نقدنا للغربيين المتوحشين ليس أخلاقيا فقط، ولكنه سيجعله جزءا من الفكر العالمي الساعي لبناء عالم أفضل، وخاليا من النفاق. فليس صحيحا أن الحضارة الغربية تمثل نهاية التاريخ، ولكنها بالتأكيد واحدة من أهم محطاته التي لا يمكن تجاهلها، فضلا عن أنها الحضارة الحاملة الآن لشعلة القوة والتقدم بكل ما يعنيه كلاهما من مشكلات سياسية واجتماعية وأخلاقية. وربما ليس صدفة أن كلا من ماليزيا وتركيا هما أكثر دول العالم الإسلامى تقدما من الناحيتين الصناعية والتكنولوجية لأن كليهما تخلصا من هذه الحالة المزدوجة من المعايير العربية من خلال التكامل مع الغرب والتمايز عنه في نفس الوقت من خلال الشركات المتعددة الجنسيات والتجمع الاقتصادي لدول آسيا والباسفيك أو الاتحاد الأوروبي حيث تصير المهمة هي اعتبار ترقية الإنسان مهمة مشتركة للجميع.