محمود طه.. تعاقبت الأزمنة و«الحملات» واحدة

TT

شهد صباح مثل هذا اليوم، الثامن عشر من يناير (كانون الثاني) 1985، إعدام الشيخ السوداني محمود محمد طه، وهو ابن السادسة والسبعين، بتهمة الردة عن الإسلام، ونقل جثمانه بالطائرة إلى مكان مجهول. لم يتردد مستشار جعفر نميري الشيخ حسن الترابي في الاعتراف لإحدى الفضائيات، وهو في موقع السلطة، بدوره في الاتهام والإعدام. لكن مَنْ يقرأ كتاب الترابي «السياسة والحكم»، ويستمع لأحاديثه وتصريحاته، بعد الانقلاب عليه وسجنه، يلاحظ تغير الشيخ وتراجعه، ولم يبق ذلك الإخواني المتشدد، المتعطش للسلطة وهلاك الخصماء. وهو يعلم، قبل غيره، أن إعدام خصمه كان إجراءً سياسياً أُلبس ثوب الدين، لا يتعدى ما كان بين الإخوان المسلمين برئاسته وما بين الإخوان الجمهوريين برئاسة القتيل. وبطبيعة الحال، لا يؤخذ بتغير الترابي وانفتاحه الجديد من دون دفع دية المسؤولية، مهما كان حجمها، ولا أراها تتعدى نطق مفردة «أعتذر»!

كان رفض الشيخ المقتول قوانين الشريعة، التي أُعلنت في سبتمبر 1983، رحمة بالشريعة والأتباع من التفريط، ومن المغامرة بالدين وتطبيق حدوده، كقانون نافذ على الناس، وسط تراكم من الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ظل الشيخ، قبل إعدامه بعشرين عاماً، يعارض محاولات تطبيق قوانين «الإيمان» بالقتل، وقطع اليد، وسلب حرية الناس. وهو يرى أن الرق ليس أصلاً في الإسلام، وتغييب النساء عن الحياة ليس من الإسلام، والإسلام جاء متدرجاً في الأديان الكتابية، كي يتعاصر مع مدارك البشر (رسالة الإسلام الثانية). أفكار وآراء قابلة للجدل والحوار، لا تستدعي تهمة الردة وعقوبة الموت، والحرمان حتى من مراسم الجنازة. وهو بمعارضته القديمة لقيام دولة دينية، حكم الردة فيها مادة من مواد الدستور، ظل هدفاً للإخوان المسلمين، فاستصدروا ضده حكماً غيابياً بالإعدام (1968) عن طريق محكمة للأحوال الشخصية، لا شأن لها بمثل هذا الحكم، مع طلاق زوجته.

لم تجد المحكمة طريقاً لتنفيذ حكمها آنذاك، فانتظر المتربصون حتى سبتمبر (أيلول) السنة 1983، عندما أُعلن تطبيق قوانين الشريعة، مع إضافة «قانون الشروع بالزنى». ويعلم الشيخ كم يتجاوز مثل هذا القانون على حكم الشريعة، الذي جاء يحمي النساء والرجال من الأفاكين. شكلت لهذه المهمة محاكم عرفت بمحاكم «العدالة الناجزة»، أو «محاكم الطوارئ». يومها عارض الشيخ علانية، ومن موقعه في الحزب الجمهوري، تلك القوانين، واعتبرها مخالفة لروح الإسلام.

قال أمام هيئة المحكمة، وهي تلوح بحكم الموت ضده: «أنا أعلنت رأيي مراراً في قوانين سبتمبر 1983 من أنها مخالفة للشريعة وللإسلام. أكثر من ذلك فإنها شوهت الشريعة، وشوهت الإسلام»، (تقرير منظمة حقوق الإنسان). وبما أن حكم الردة على الشيخ كان حكماً سياسياً لا دينياً، فقد أُلغي الحكم حال سقوط النظام، وقررت المحكمة الدستورية العليا بطلان محاكمته «واعتبار كل ما ترتب عليها لاغياً».

على غرار قوانين سبتمبر 1983 السودانية أعلن نظام شباط 1963 في العراق تطبيق الشريعة بالمعتقلين السياسيين، وحتى يبرروا إعدام الآلاف من البشر سعوا إلى استصدار فتاوى قتل من الفقهاء، الشيعة والسُنَّة. غير أن مطبقي الشريعة في الخصماء السياسيين أعدموا، في جولتهم الثانية 1968، الشيخ عبد العزيز البدري، وآية الله محمد باقر الصدر ونعتوه بالمجرم (المجوسي)، وآية الله قاسم شبر وقد بلغ «من الكبر عتيا»، وغيرهم الكثير. وباسم قوانين الشريعة قطعت رؤوس نساء، وثبت قانون «غسل العار» العشائري، وهو مخالف للشريعة.

هناك تاريخ للحملات الإيمانية، ومطاردة الآمنين باسم الدين، ففي قروننا الوسطى، حكم على الفقيه الحنبلي ابن عقيل (ت513هـ) بالموت لأنه طالع كتب المعتزلة، وترحم على بعض المتصوفة. اضطر، وهو في زعامة مذهبه، إلى إعلان توبته من مطالعة أو كتابة نص أو اعتقاد بفكر مخالف: «أنا تائب إلى الله سبحانه وتعالى من كتابته وقراءته، وإنه لا يحلُ لي كتابته ولا قراءته ولا اعتقاده»، (ابن قدامة، تحريم النظر في كتب الكلام). وقبلها قاد الخليفة عبد الله المأمون، رغم شفافية زمنه، حملة ضد مَنْ اعتقد خلافاً لعقيدة المعتزلة في خلق القرآن ونفي الصفات. كان أبرز المعذَبين الإمام أحمد بن حنبل (ت247هـ). ومن المقتولين كان أحمد بن نصر الخزاعي (231هـ) (تاريخ اليعقوبي).

وشهدت مثل هذه الحملات الإيمانية، وبقسوة مشددة، أوروبا القرون الوسطى، فبحجة الحفاظ على إيمان المجتمع، وتطبيق الشريعة أخذت الإعدامات مأخذها من الناس: بسبب قراءة كتاب، أو بتهمة إهانة الكتاب المقدس، أو بسبب التخلف عن مواعيد الكنيسة. فحسب ول ديورانت في «قصة الحضارة»، كان أبرز رجال الدين عنفاً القس توماس توركيمادا، قتل طبيبه الخاص حرقاً بتهمة تنجيس الصليب، وأصدر أمراً بتعذيب المتهمين، بانتزاع لحم أجسادهم بآلة الكلابة. وتقرر حرق المتهمين بالبروتستانية، ومحاكمة أي راهب لا يعظ ضدها.

قال مؤرخ كاثوليكي: «كان رجال محكمة التفتيش الذين لم يفتر البابا عن حضهم يشمون الهرطقة في حالات كثيرة. ما كان المراقب الهادئ الحذر ليكشف فيها أثراً لهرطقة... وحرض الحاسدون والمفترون على بذل الجهد في تسقيط الكلمات المريبة من شفاه رجال كانوا عمداً راسخة للكنيسة ضد المبتدعين، وعلى تلفيق تهم الهرطقة لهم... وبدأ عصر إرهاب فعلي ملأ روما كلها بالخوف».

أخذ البابوات يتدخلون في أدق تفاصيل حياة الناس الشخصية، فإضافة إلى التدخل في شؤون العبادة، من الذهاب إلى الكنيسة والامتناع عن محرماتها، حُرمت قراءة أي كتاب لم يحصل على إذن بالنشر من الكنيسة. ولثقل تشدد أحد الباباوات على الأتباع هرعوا بعد وفاته إلى تحطيم تمثاله، ورميه في نهر تيير، «وأحرقوا مباني محكمة التفتيش، وأطلقوا سجناءها، وأتلفوا وثائقها»(قصة الحضارة).

أكلت قوانين الحملات الإيمانية، لغايات سياسية مصحوبة بتعصب ديني أو مذهبي، الكثير من البشر، ومن علماء الدين وشيوخه أكثر من العوام، وما الشيخ محمود محمد طه، إلا واحدا من الألوف عبر التاريخ.