إنها الحقيقة المرة .. لقد أصبحت إيران دولة نووية!

TT

حتى الذين لا يؤيدون سعي إيران المحموم لتطوير قدراتها النووية، فإنهم بالتأكيد لا يستطيعون إخفاء إعجابهم بالدهاء التفاوضي، الذي اتبعه الإيرانيون، والذي ما زالوا يتبعونه، فهم مرة يضربون على الحافر، ومرة أخرى يضربون على المسمار، كما يقال، ومرة يتراجعون، ومرة يتقدمون ولقد اتبعوا أساليب في المناورات، وفي الكر والفر، أثبتت أنهم لا يتصرفون عشوائياً، وإنما وفق خطط مدروسة، وضمن حلقات متتابعة كل حلقة منها تفضي الى حلقة لاحقة جديدة.

عندما وضع معممو إيران برنامجهم النووي، الذي سيفضي حتماً الى أغراض عسكرية، اختاروا واجهة لهم وجهاً صبوحاً، هو وجه الرئيس السابق محمد خاتمي، الرجل الذي سحر بلطف كلامه وهندامه الجميل، وعذوبة نبرة صوته وباعتداله حتى الغرب الكاره للثورة الإيرانية، والمتوجس خيفة منها، والذي لم يتورع في مراحل السعي لاستيعاب هذه الثورة واستهلاكها إقليمياً عن وضع يده في يد صدام حسين الذي كان فرس الرهان في المنطقة، والذي أُسقط نظامه بعد أن انتهت مهمته ووضع في السجن ليحاكم، كمجرم وسفاك دماء، بلا شفقة ولا رحمة.

كان العالم، الذي يرغي ويزبد ويهدد ويتوعد في هذه الأيام، عندما ينظر عن بعد وعن قرب، ومن خلال طائرات التجسس والأقمار الإصطناعية، الى المشروع النووي الإيراني، والى مفاعلاته المشرئبة الأعناق، يرى وجهاً باسماً هو وجه محمد خاتمي، وكان عندما كانت تقال له كلمة في المفاوضات التي شهدتها بعض العواصم الغربية يصدقها.. وهكذا وبينما القناعة تترسخ بأن إيران على وشك رفع يديها وإلقاء أسلحتها، كان العمل في الجانب المظلم من المشهد يتواصل بهمم عالية لإنجاز ما تقرر إنجازه ولمباغتة العالم في لحظة غفلة، ووضعه على نحو مفاجئ أمام واقع لا يمكن تغييره ولا يمكن الإلتفاف عليه.

لا يوجد أداء أفضل من أداء الإيرانيين خلال معركة المفاوضات المستمرة منذ أعوام عدة سابقة، فهم رغم كرههم الشديد لمعاوية بن أبي سفيان ولابنه يزيد وللأمويين وعهدهم وخلافتهم بصورة عامة، إلا أنهم اتبعوا طريقته المعروفة في العمل السياسي، التي كان لخصها بتلك الجملة الشديدة البلاغة والاختصار التي تقول: «والله لو أنه بين الناس وبيني شعرة لما قطعتها، فإن هم أرخوها شددتها، وإن هم شدّوها أرخيتها».

وربما أيضاً ان المفاوض الإيراني، البهي الطلة، الذي كان العالم يشاهده على شاشات الفضائيات هاشاً وباشاً ،والذي سار على خطى رئيسه السابق محمد خاتمي في الإعتدال وإظهار الملمس الناعم وإتقان لعبة المظاهر الخادعة، وقول شيء والتصرف عكسه.. ربما أن هذا المفاوض، قبل النزول بأسلحته وحججه وكرِّه وفرِّه الى ميدان المفاوضات، كان قد راجع ملفات المفاوضات الفيتنامية ـ الأميركية التي جرت في باريس في بدايات عقد سبعينات القرن الماضي والتي أذاق فيها الفيتناميون مفاوضيهم المـُرَّ نفسه الذي أذاقوه للأميركيين في أدغال فيتنام الموحلة.

كان اللبناني الأصل فيليب حبيب، الذي ورث عن والده، بائع السجاد، الصبر والمثابرة، هو الذي ترأس الجانب الاميركي الى المفاوضات وكانت تجلس في مواجهته على الطرف الآخر من المائدة، سيدة فيتنامية فضية الشعر كانت تبدو وباستمرار جاهزة ومتيقظة لا تهمل شاردة ولا واردة، وكانت تأتي بملفات حبلى بالأوراق والوثائق والقضايا وكانت بعد ان تمطر هذا الأميركي الفذ، الذي جاءت عائلته من بلاد الأرز للبحث عن الفرص المتاحة في القارة الجديدة، بابتسامة سامة وخبيثة، تبدأ بالقراءة ثم تستمر في قراءتها بدون كلل ولا ملل، الى أن يبدأ السأم يتسلل الى رأسه، ويبدأ النعاس يغزو عينيه، فتهاجمه بالشروط والاقتراحات، وتشن عليه غارات عاصفة كالغارات التي كان يشنها رجال «الفيتكونغ» في الوقت ذاته على جنود بلاده، الذين كانت معنوياتهم قد انحدرت الى الارض، وغرقت في تلك الأدغال الموحشة والرطبة والبعيدة.

إن هذا ما فعله المفاوض الإيراني بالضبط، فقد كان يلتقي المفاوضين الأوروبيين حول مائدة المفاوضات، إن في فيينا أو في أي عاصمة أوروبية أخرى، فيسمعهم كلاماً حلواً وعذباً، ويملأ أصابع أيديهم بالوعود الوردية، وذلك في حين أن زملاءه من السياسيين والعسكريين والعلماء، كانوا ينهمكون كعاملات النحل في عمل دؤوب لا يعرف الراحة ولا التوقف لتغيير المعادلات على الارض، وليذهب مفاوضهم في المرة القادمة الى مائدة التفاوض، وهو يملك أوراقاً جديدة ومعادلات مستجدة.

لقد بقي الإيرانيون يلعبون مع الأوروبيين، ومع الأميركيين أيضاً، لعبة الفأر والقط لعدة أعوام، وكانوا خلال هذه الاعوام ينهمكون في تغيير المعادلات على الارض وفي المعامل وفي منشآت المفاعلات النووية، ولعل ما يجب قوله الآن ان طهران تسللت من بين أصابع الغفلة والانشغال، وضربت ضربة هائلة كان على دول هذه المنطقة، التي تقع على الطرف الغربي من الخليج والمتاخمة لهذه الدول، أن تدركها وتعرف أبعادها، وذلك إذا كانت الولايات المتحدة المنشغلة في هوس استعادة أمجاد الامبراطورية الرومانية العظيمة لم تتنبه إليها، أو أنها تنبهت إليها لكنها صمتت ظناً منها ان الصمت في مصلحتها ومصلحة مخططاتها.

إنها ضربة مزدوجة فهي، أي طهران، استطاعت بعد تخطيط هادئ وطويل النفس، أسدلت فوقه أردية المكر والتخفي بمهارة دهاقنة الفرس القدماء، أن تصطاد عصفورين بحجر واحد: العصفور الأول هو التخلص من نظام صدام حسين بأيدي غيرها، والعصفور الثاني هو إغراق الولايات المتحدة في أوحال العراق، واستيعابها استيعاباً كاملاً في أزمته المتفاقمة، وجعلها غير قادرة إلا على تصريحات وبيانات التنديد والاستنكار، وإلا على اللجوء الى السيد كوفي عنان وهيئته الدولية، عندما حانت لحظة الحقيقة ووضع الإيرانيون العالم كله أمام الأمر الواقع والحقيقة المرة.

لم تكن إيران في أي يوم من الأيام، أقوى مما هي عليه الآن فهي تخلصت من خصم عنيد حاربها وحاربته لثمانية أعوام متواصلة، وهي استطاعت ان توجد في أرض العراق موطئ قدم ثابت، لم يستطع أن يوجده حتى «نادر شاه» في ذروة قوة الدولة الصفوية، وهي الى جانب هذا كله، تمكنت من إنشاء هلال نفوذها السياسي، الذي يبدأ أحد طرفيه بحركة «الحوثي» في اليمن السعيد في الجنوب، وينتهي طرفه الآخر ببوابة «فاطمة» المحروسة بحراب «حزب الله» في الجنوب اللبناني في الشمال.

وأيضاً فإن إيران قد تمكنت ببراعتها السياسية، التي لا يمكن إنكارها أو إغماض العيون عنها، بينما هي تسعى سعياً حثيثاً وتواصل الليل بالنهار والنهار بالليل، لإنجاز مشروعها النووي من استدراح الأميركيين الى أوحال دجلة والفرات، واستيعاب قوتهم العسكرية هناك، وجعلهم أسرى هذه الحالة، بل وجعلهم كبيضة خداج في يدها، يستطيعون هرسها عندما تحين لحظة ضرورة الهرس هذه.

لا تستطيع الولايات المتحدة، المستوعبة عسكرياً في العراق، والتي تقع قواتها تحت رحمة ميليشيات العمائم السوداء، التابعة لمرجعية «قم»، والملتزمة التزاماً صارماً بأي إشارة من مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، ان تفعل شيئاً، ولذلك ولأن أوروبا قد قالت بدورها و«بعظمة لسانها» إنها لا تستطيع ان تفعل أكثر من إحالة ملف إيران النووي الى مجلس الأمن الدولي، فإن طهران التي باتت على أتم الاستعداد لمواجهة أي قرار بالمقاطعة والعقوبات الدولية، أصبحت مطلقة اليد، وغدت قادرة على تحمل تبعات كل ما يقوله محمد أحمدي نجَّاد ويهدد به.

ستصل إيران الى اللحظة الحاسمة قريباً، وهي بالتأكيد ستعلن امتلاكها للقنبلة النووية، أسوة بالهند والباكستان وإسرائيل، إن ليس الآن، ففي المستقبل القريب جداً، وعندها لن تستطيع الولايات المتحدة ان تفعل أكثر من بيانات التنديد، ولن تجد أوروبا «المسكينة»، سوى أن تضع يدها على خدها، وتقول وعلى الطريقة المغاربية: «الله غالب». أما إسرائيل، فإنها إن هي حاولت لعب دور كلب الحراسة المعهود، فإنها ستكون الخاسر الأكبر، فالأيام التي كانت فيها يدها طويلة وقبضتها تستطيع الوصول الى حيث تشاء، ويشاء الأميركيون، قد ولت بلا رجعة.

لقد أصبحت إيران دولة نووية بالفعل، وعلى من لا يزال لم يصدق هذا أن يصدق، فالإيرانيون استطاعوا أن يلعبوا لعبتهم بتفوق، وها هو محمد أحمدي نجاد يضع إصبعه في عين أميركا متحدياً ومهدداً ومتوعداً، بينما الأميركيون مستوعبون تماماً في أوحال دجلة والفرات، وتبدو عينهم بصيرة ويدهم قصيرة.