مأزق شارون يسرع العد التنازلي لاستمرار حكومته

TT

بدأ المأزق السياسي الذي قادت اليه مواقف شارون رئيس وزراء اسرائيل (واطراف الائتلاف الحكومي) يتفاقم شيئا فشيئا.

وبدأ الرأي العام الاسرائيلي يتململ شيئا فشيئا نتيجة هذا المأزق الظاهر للجميع. وهذان الامران سوف يقودان الى مرحلة تجبر شارون على اتخاذ موقف، اذ لا يستطيع شارون ولا ائتلافه الحكومي ان يستمرا في المراوغة في هذا المأزق السياسي والمترافق مع انغماس الجيش الاسرائيلي في حرب يومية ضد الشعب الفلسطيني.

ويمكن وصف مأزق شاروق بأنه مأزق صنعه هو بيديه ولم يدفعه اليه احد. فقد كبل نفسه بوعود للناخبين تتناقض تناقضا جذريا مع نهج السلام وتتضارب مع قرارات الشرعية الدولية والمواقف الرسمية المعلنة لكل من الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد الاوروبي.

فقد تعهد بعدم ازالة المستوطنات واعادة المستوطنين الى اسرائيل. وتعهد بعدم التنازل عن الارض او الحدود. وتعهد بان يبقى غور الاردن تحت السيطرة الاسرائيلية.

وفوق كل هذا تعهد بالا تستأنف اسرائيل المفاوضات الا بعد ان يوقف الفلسطينيون انتفاضتهم على الاحتلال الاسرائيلي وقواته المعتدية. وبذلك يكون شارون قد الزم نفسه وحكومته بالاستمرار بالاعتداءات العسكرية ضد الشعب الفلسطيني وبعدم التفاوض. لأن استمرار قوات الاحتلال في الاعتداءات العسكرية على الشعب الفلسطيني لن يعني الا استمرار الفلسطينيين في الدفاع عن انفسهم واملاكهم واراضيهم، لكن حسابات شارون التي بناها استنادا لتوقعه ان تدعمه وتدعم مواقفه الادارة الاميركية بشكل كامل كانت حسابات خاطئة. وسرعان ما تبخرت كل الايحاءات التي اطلقها شارون عند عودته من واشنطن. كانت اهم تلك الايحاءات هي حصوله على موافقة (وضوء اخضر اميركي) للاستمرار في ضرب الفلسطينيين وعدم التفاوض تحت ضغط العنف. واستنادا لانطباعات شارون نفسه بهذا، سارع لرفض المشروع المصري الاردني الذي حمله للرئيس بوش الرئيس حسني مبارك والملك عبد الله الثاني.

فقد رفض شارون المشروع قبل ان يعرف مضمونه، لكن الادارة الاميركية، التي تلم الماما كاملا بدقائق الوضع في الشرق الاوسط وفي فلسطين، تبنت المشروع المصري الاردني وطلبت من مصر والاردن مشاركتهما الفاعلة مع الولايات المتحدة لتهدئة الاوضاع والعودة للمفاوضات. وكانت الترجمة الاولى لهذا الموقف الاميركي، وهو مبادرة الولايات المتحدة لتحقيق خطوتين اوليين على هذا الطريق:

الخطوة الاولى: هي الدعم الاميركي الكامل و(التشجيع) للاتحاد الاوروبي في جهوده لترتيب لقاء سياسي بين شمعون بيريس وزير خارجية اسرائيل وكل من الدكتور نبيل شعث والدكتور صائب عريقات، بحضور الاوروبيين في اثينا.

الخطوة الثانية: هي مبادرة الولايات المتحدة لعقد جلسة بين كبار المسؤولين الامنيين الفلسطينيين والاسرائيليين بحضور الولايات المتحدة وفي منزل السفير الاميركي في هرتسليا.

وجاء اللقاءان على هذا الشكل اي سياسيا وامنيا بشكل متزامن، بناء على اصرار الطرف الفلسطيني اولا وموافقة الولايات المتحدة ثانيا.

وذلك ان المعنى البعيد من ترتيب اللقاءين بهذا الشكل هو ان الولايات المتحدة تبنت المشروع المصري الاردني الذي ينص على وضع آلية لتطبيق اتفاق شرم الشيخ وفي الوقت ذاته بدء المباحثات السياسية. وبكلام اخر فإن السير في هذين الطريقين المتوازيين هو رفض لموقف شارون الذي يرفض العودة للمفاوضات الا بعد وقف الانتفاضة. هذا من ناحية اما من الناحية الاخرى فقد جرت لقاءات سياسية لها دلالات مهمة. فقد ارسل شارون ابنه عمري للقاء الرئيس ياسر عرفات. وعندما وجهت انتقادات لشارون لاتخاذه قرارا بارسال ابنه للقاء ياسر عرفات، اكد شارون ان ابنه بحث مع الرئيس ياسر عرفات امورا سياسية. وهذا ايضا يناقض الموقف المعلن لشارون اي رفض اي مباحثات سياسية قبل وقف الانتفاضة.

ويأتي تصرف شارون هذا في ظل تنامي الشعور بالخوف والقلق والرغبة بايجاد حل في المجتمع الاسرائيلي بشكل عام. ومن المعروف ان الرأي العام الاسرائيلي سريع التقلب ويمكن ان يتغير بسرعة بسبب ضغط بعض العوامل المتحركة. فبالرغم من الانجراف العام نحو اليمين ومواقف اليمين المتطرفة فقد بدأ يظهر في الرأي العام الاسرائيلي تبدل، رغم قصر مدة حكم شارون.

وقد يكون هذا التغيير قد بدأ بسبب فشل شارون في تنفيذ وعوده الانتخابية بالسرعة التي حددها هو لناخبيه، لكنه من المؤكد ان هذا العمل على اهميته ليس هو العامل الوحيد الذي دفع ويدفع باتجاه التبدل في الرأي العام الاسرائيلي. فالاوضاع الاقتصادية ازدادت سوءا في اسرائيل. ويشهد السوق المالي الاسرائيلي هبوطا دراماتيكيا متطابقا منذ تسلم شارون مركزه كرئيس وزراء (وذلك بالرغم من وعوده بتنشيط الاقتصاد) كما يشهد الشيكل (العملة الاسرائيلية) هبوطا حادا في سعره مقابل الدولار الاميركي منذ مجيء شارون للحكم. كذلك فإن قطاعات اقتصادية مهمة تشهد جمودا لم يسبق له مثيل. ومن هذه القطاعات: البناء والسياحة والفنادق والمطاعم والزراعة والصناعة الالكترونية. وينزل هذا الهبوط الاقتصادي خسائر فادحة في تلك القطاعات. هذا يجري في الوقت الذي بدأت ترتفع فيه تكاليف الحملات العسكرية الاسرائيلية في غزة والضفة الغربية الفلسطينية مما اضطر المؤسسة العسكرية للمطالبة بمليارات الشيكلات لتمويل حملاتها العسكرية العدوانية. اما العامل المهم الآخر فهو عدم وفاء شارون (او عدم قدرته على الوفاء) بما تعهد به للناخبين من تحقيق الاستقرار والامن للاسرائيليين.

فقد ظن الناخبون ان شارون سيتمكن من توجيه الضربة القاضية للانتفاضة حسبما وعد الجمهور الاسرائيلي. الا ان حساب البيادر لم يتطابق مع حساب الحقل. فقد فشل شارون في تحقيق ذلك. لا بل ان التصعيد الذي تمارسه المؤسسة العسكرية الاسرائيلية بناء على تعليمات شارون لم يولد الا دفاعا فلسطينيا عن النفس بشكل اقوى. واثار هذا التصعيد انتقادات الاوروبيين والاميركيين على حد سواء. ولا شك ان الاعتداء المدبر على موكب مسؤولي الامن الفلسطيني عند معبر بيت حانون، مباشرة بعد انتهاء الاجتماع الاول بين مسؤولي اجهزة الامن الفلسطينية وبين مسؤولي الامن الاسرائيليين بحضور الولايات المتحدة، شكل علامة بارزة في استثارة غضب الولايات المتحدة واوروبا. فقد سارعت الولايات المتحدة لادانته واتصل وزير الخارجية الاميركي كولين باول بشارون واصر على طلبه بان يتصل شارون بالرئيس ياسر عرفات ليعتذر عن الحادث كما اعلنت اوروبا ادانتها للاعتداء على موكب المسؤولين الامنيين الفلسطينيين. وليس هذا فحسب فقد اثار هذا الاعتداء تساؤلات كثيرة في الاوساط الاسرائيلية. كما اثار الحادث استهجان احزاب وقوى سياسية في اسرائيل واعتبره البعض عملا لااخلاقيا بينما اعتبر البعض ان الرواية الرسمية الاسرائيلية هي رواية كاذبة. وان هذا يضاف لسجل الكذب الرسمي الذي بدأت اوساط في الرأي العام الاسرائيلي تتهم حكومة شارون ومكتبه بممارسته على نطاق واسع. وربط البعض بين اعتقال الضابط الاسرائيلي الذي اتهم باطلاق النار على جنوده كي يتهم الفلسطينيين باطلاق النار ويبرر اعطاء اوامره بالقصف واطلاق النار. وبين اطلاق النار على موكب المسؤولين الامنيين الفلسطينيين.

وزادت هذه العوامل من شعور الاسرائيليين بخيبة الامل وشعورهم بان الطريق مسدود. وان شارون لن يتمكن من الوفاء بوعده.

وهنا بدأ يحدث (بداية فقط لكنها ستستمر) التبدل في موقف الرأي العام الاسرائيلي. ويمكننا ان نستند لمؤشرات صغيره للقول ان الاسرائيليين بدأوا يتحدثون عن ضرورة ايجاد حل مع الفلسطينيين والدعوة للتخلص من هذا الوضع قبل ان يتفاقم وقبل ان يغطس ابناؤهم في حرب ستودي بحياتهم يوميا، وقبل ان يتحول الوضع في قطاع غزة والضفة الغربية الى وضع يخضع فيه الجنود الاسرائيليون لظروف شبيهة بتلك التي عاشوها سنوات طويلة في جنوب لبنان. وهذا الشعور المتنامي في الرأي العام الاسرائيلي دفع زئيف شيف، احد اهم المحللين العسكريين الاسرائيليين للحديث بوضوح عن تجاوز الفلسطينيين لدروس حربي 1967 ـ 1973 واختبار دروس تجربة جنوب لبنان. وانعكس هذا الشعور على بداية حركة رفض للخدمة في الضفة الغربية وقطاع غزة. وقامت السلطات الاسرائيلية باعتقال اول خمسة اسرائيليين رفضوا الخدمة في المناطق الفلسطينية.

مجمل القول ان شارون في مأزق صنعه بيديه وعبر مواقفه التي لا تنسجم مع الجو الدولي العام وتتناقض مع عملية السلام واساسها القائم على تطبيق قرارات الشرعية الدولية. ويزداد هذا المأزق بتسارع كبير سيحرم شارون من اطالة عمر حكومته، إن هو استمر على مواقفه وهذا التسارع ناجم اساسا عن التسارع في الموقف الاميركي تجاه الشرق الاوسط وعملية السلام. والجميع يعلم ان هذا التسارع في عودة اهتمام الادارة الاميركية في عملية السلام نجم عن استماع الادارة الاميركية لشرح الرئيس حسني مبارك والملك عبد الله الثاني، لما يدور في الاراضي الفلسطينية. كما نجم عن شعور الادارة الاميركية بان هنالك تفاقما في الاوضاع مما يهدد الاستقرار في منطقة للولايات المتحدة فيها مصالح حيوية واستراتيجية.

وبالرغم من محاولة شارون واليمين استخدام انصارهم في الكونغرس الاميركي لثني الادراة الاميركية عن ممارسة الضغط على الحكومة الاسرائيلية لتطبيق اتفاق شرم الشيخ والعودة للمفاوضات، فإن التطورات تشير الى اصرار الادارة الاميركية للسير قدما في هذا الاتجاه. فالرسالة التي وضعها 296 عضوا من اعضاء الكونغرس ووجهوها للرئيس بوش لتطالبه بقطع العلاقات مع السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية وقطع المساعدات عنهما، هي رسالة ضغط، لكن هذا الضغط لن يصبح فاعلا الا اذا ارتكب الفلسطينيون اخطاء تعطي شارون اوراق ضغط على طبق من فضة.

الوقت مهم جدا لأن العد التنازلي لحكومة شارون بدأ، ولان المأزق الذي وضع شارون نفسه وحكومته فيه لا يمكن ان يحل الا بالعودة لطاولة المفاوضات استنادا لقرارات الشرعية الدولية.